قوله تعالى : ( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ) .
[ ص: 148 ] اعلم أنه تعالى لما أمرهم بإيتائهن صدقاتهن عقبه بذكر جواز قبول إبرائها وهبتها له ، لئلا يظن أن عليه إيتاءها مهرها وإن طابت نفسها بتركه ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : نفسا : نصب على التمييز والمعنى : طابت أنفسهن لكم عن شيء من الصداق بنقل الفعل من الأنفس إليهن ، فخرجت النفس مفسرة كما قالوا : أنت حسن وجها ، والفعل في الأصل للوجه ، فلما حول إلى صاحب الوجه خرج الوجه مفسرا لموقع الفعل ، ومثله : قررت به عينا وضقت به ذرعا .
المسألة الثانية : إنما وحد النفس ؛ لأن المراد به بيان موقع الفعل ، وذلك يحصل بالواحد ومثله عشرون درهما . قال الفراء : لو جمعت كان صوابا كقوله : ( بالأخسرين أعمالا ) [ الكهف : 103 ] .
المسألة الثالثة : " من " في قوله : ( منه ) ليس للتبعيض ، بل للتبيين ، والمعنى عن شيء من هذا الجنس الذي هو مهر كقوله : ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) [ الحج : 30 ] وذلك أن . المرأة لو طابت نفسها عن جميع المهر حل للزوج أن يأخذه بالكلية
المسألة الرابعة : منه : أي من الصدقات أو من ذلك ، وهو كقوله تعالى : ( قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ) [ آل عمران : 15 ] بعد ذكر الشهوات . وروي أنه لما قال رؤبة :
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق
فقيل له : الضمير في قوله " كأنه " إن عاد إلى الخطوط كان يجب أن تقول : كأنها ، وإن عاد إلى السواد والبلق كان يجب أن تقول : كأنهما ، فقال : أردت كأن ذاك ، وفيه وجه آخر وهو أن الصدقات في معنى الصداق لأنك لو قلت : وآتوا النساء صداقهن لكان المقصود حاصلا ، وفيه وجه ثالث : وهو أن الفائدة في تذكير الضمير أن يعود ذلك إلى بعض الصداق ، والغرض منه ترغيبها في أن لا تهب إلا بعض الصداق .
المسألة الخامسة : معنى الآية : فإن وهبن لكم شيئا من الصداق عن طيبة النفس من غير أن يكون السبب فيه شكاسة أخلاقكم معهن ، أو سوء معاشرتكم معهن ، فكلوه وأنفقوه ، وفي الآية دليل على ضيق المسلك في هذا الباب ، ووجوب الاحتياط ، حيث بنى الشرط على طيب النفس فقال : ( فإن طبن ) ولم يقل : فإن وهبن أو سمحن ، إعلاما بأن المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة .
المسألة السادسة : الهنيء والمريء : صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ ، إذا كان سائغا لا تنغيص فيه ، وقيل : الهنيء ما يستلذه الآكل ، والمريء ما يحمد عاقبته ، وقيل : ما ينساغ في مجراه ، وقيل لمدخل الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة : المريء لمروء الطعام فيه وهو انسياغه . وحكى الواحدي عن بعضهم أن أصل الهنيء من الهناء وهو معالجة الجرب بالقطران ، فالهنيء شفاء من الجرب ، قال المفسرون : المعنى أنهن إذا وهبن مهورهن من أزواجهن عن طيبة النفس لم يكن على الأزواج في ذلك تبعة لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وبالجملة فهو عبارة عن التحليل ، والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة .
المسألة السابعة : قوله : ( هنيئا مريئا ) وصف للمصدر ، أي أكلا هنيئا مريئا ، أو حال من الضمير أي كلوه وهو هنيء مريء ، وقد يوقف على قوله : ( فكلوه ) ثم يبتدأ بقوله : ( هنيئا مريئا ) على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين كأنه قيل : هنأ مرأ .
[ ص: 149 ] المسألة الثامنة : دلت هذه الآية على أمور : منها : أن المهر لها ولا حق للولي فيه ، ومنها جواز ، وجواز أن يأخذه الزوج ؛ لأن قوله : ( هبتها المهر للزوج فكلوه هنيئا مريئا ) يدل على المعنيين ، ومنها جواز هبتها المهر قبل القبض ؛ لأن الله تعالى لم يفرق بين الحالتين .
وههنا بحث وهو أن قوله : ( فكلوه هنيئا مريئا ) يتناول ما إذا كان المهر عينا ، أما إذا كان دينا فالآية غير متناولة له ، فإنه لا يقال لما في الذمة : كله هنيئا مريئا .
قلنا : المراد بقوله : ( فكلوه هنيئا مريئا ) ليس نفس الأكل ، بل المراد منه حل التصرفات ، وإنما خص الأكل بالذكر ؛ لأن معظم المقصود من المال إنما هو الأكل ، ونظيره قوله تعالى : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) [ النساء : 10 ] وقال : ( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) .
المسألة التاسعة : قال بعض العلماء : إن وهبت ثم طلبت بعد الهبة علم أنها لم تطب عنه نفسا ، وعن : أن امرأة جاءت مع زوجها الشعبي شريحا في عطية أعطتها إياه وهي تطلب الرجوع فقال شريح : رد عليها ، فقال الرجل أليس قد قال الله تعالى : ( فإن طبن لكم عن شيء ) فقال : لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه . وروي عنه أيضا : أقيلها فيما وهبت ولا أقيله لأنهن يخدعن ، وحكي أن رجلا من آل أبي معيط أعطته امرأته ألف دينار صداقا كان لها عليه ، فلبث شهرا ثم طلقها ، فخاصمته إلى ، فقال الرجل : أعطتني طيبة به نفسها ، فقال عبد الملك بن مروان عبد الملك : فإن الآية التي بعدها ( فلا تأخذوا منه شيئا ) [ النساء : 20 ] اردد عليها . وعن رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى قضاته : إن النساء يعطين رغبة ورهبة ، فأيما امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها . والله أعلم . عمر بن الخطاب