ثم قال تعالى : ( ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) .
واعلم أن قوله : ( ألا خوف ) في محل الخفض بدل من " الذين " والتقدير : ويستبشرون بأن لا خوف ولا حزن بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : الاستبشار السرور الحاصل بالبشارة ، وأصل الاستفعال طلب الفعل ، فالمستبشر بمنزلة من طلب السرور فوجده بالبشارة .
المسألة الثانية : اعلم أن الذين سلموا ذكروا لهذه الآية تأويلات أخر : كون الشهداء أحياء قبل قيام القيامة
أما الأول : فهو أن يقال : أن الشهداء يقول بعضهم لبعض : تركنا إخواننا فلانا وفلانا في صف المقاتلة مع الكفار فيقتلون إن شاء الله فيصيبون من الرزق والكرامة ما أصبنا ، فهو قوله : ( ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم ) .
وأما الثاني : فهو أن يقال : إن الشهداء إذا دخلوا الجنة بعد قيام القيامة يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ، والمراد بقوله : ( لم يلحقوا بهم من خلفهم ) هم إخوانهم من المؤمنين الذين ليس لهم مثل درجة الشهداء ، لأن الشهداء يدخلون الجنة قبلهم ، دليله قوله تعالى : ( وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة ) [ النساء : 95 ، 96 ] فيفرحون بما يرون من مأوى المؤمنين والنعيم المعد لهم ، وبما يرجونه من الاجتماع بهم وتقر بذلك أعينهم ، هذا اختيار أبي مسلم الأصفهاني والزجاج .
واعلم أن التأويل الأول أقوى من الثاني ، وذلك لأن حاصل الثاني يرجع إلى استبشار بعض المؤمنين [ ص: 78 ] ببعض بسبب اجتماعهم في الجنة ، وهذا أمر عام في حق كل المؤمنين ، فلا معنى لتخصيص الشهداء بذلك ، وأيضا : فهم كما يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ، فكذلك يستبشرون بمن تقدمهم في الدخول ، لأن ، قال تعالى : ( منازل الأنبياء والصديقين فوق منازل الشهداء فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) [ النساء : 69 ] وعلى هذا التقدير لا يبقى فائدة في التخصيص . أما إذا فسرنا الآية بالوجه الأول ففي تخصيص المجاهدين بهذه الخاصية أعظم الفوائد فكان ذلك أولى ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : الخوف يكون بسبب توقع المكروه النازل في المستقبل ، والحزن يكون بسبب فوات المنافع التي كانت موجودة في الماضي ، فبين سبحانه أنه لا خوف عليهم فيما سيأتيهم من أحوال القيامة ، ولا حزن لهم فيما فاتهم من نعيم الدنيا .