[ ص: 5 ] ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين )
قوله تعالى : ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ) فيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن عامر ( سارعوا ) بغير واو ، وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام ، والباقون بالواو ، وكذلك هو في مصاحف مكة والعراق ومصحف عثمان ، فمن قرأ بالواو عطفها على ما قبلها والتقدير أطيعوا الله والرسول وسارعوا ، ومن ترك الواو فلأنه جعل قوله : ( سارعوا ) وقوله : ( قل أطيعوا الله ) [آل عمران : 32] كالشيء الواحد ، ولقرب كل واحد منها من الآخر في المعنى أسقط العاطف .
المسألة الثانية : روي عن الكسائي الإمالة في ( سارعوا ) و ( أولئك يسارعون ) و ( نسارع ) وذلك جائز لمكان الراء المسكورة ، ويمنع كما المفتوحة الإمالة ، كذلك المسكورة يميلها .
المسألة الثالثة : قالوا : في الكلام حذف والمعنى : وسارعوا إلى ما يوجب مغفرة من ربكم ولا شك أن ، فكان هذا أمرا بالمسارعة إلى فعل المأمورات وترك المنهيات ، وتمسك كثير من الأصوليين بهذه الآية في أن ظاهر الأمر يوجب الفور ويمنع من التراخي ووجهه ظاهر ، وللمفسرين فيه كلمات : الموجب للمغفرة ليس إلا فعل المأمورات وترك المنهيات
إحداها : قال : هو الإسلام ، أقول : وجهه ظاهر ؛ لأنه ذكر المغفرة على سبيل التنكير ، والمراد منه المغفرة العظيمة المتناهية في العظم وذلك هو المغفرة الحاصلة بسبب الإسلام . ابن عباس
الثاني : روي عن رضي الله عنه أنه قال : هو أداء الفرائض ، ووجهه أن اللفظ مطلق فيجب أن يعم الكل . علي بن أبي طالب
والثالث : أنه الإخلاص وهو قول رضي الله عنه : ووجهه أن المقصود من جميع العبادات الإخلاص ، كما قال : ( عثمان بن عفان وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) [البينة : 5]
الرابع : قال : هو الهجرة . أبو العالية
والخامس : أنه الجهاد وهو قول الضحاك ، ومحمد بن إسحاق ، قال : لأن من قوله : ( وإذ غدوت من أهلك ) [آل عمران : 121] إلى تمام ستين آية نزل في يوم أحد فكان كل هذه الأوامر والنواهي مختصة بما يتعلق بباب الجهاد .
السادس : قال : إنها التكبيرة الأولى . سعيد بن جبير
والسابع : قال عثمان : إنها الصلوات الخمس .
والثامن : قال عكرمة : إنها جميع الطاعات ؛ لأن اللفظ عام فيتناول الكل .
والتاسع : قال الأصم : سارعوا ، أي بادروا إلى التوبة من الربا والذنوب ، والوجه فيه أنه تعالى نهى أولا عن الربا ، ثم قال : ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ) فهذا يدل على أن المراد منه المسارعة في ترك ما تقدم النهي عنه ، والأولى ما تقدم من وجوب حمله على أداء الواجبات والتوبة عن جميع المحظورات ؛ لأن اللفظ عام فلا وجه في تخصيصه ، ثم أنه تعالى بين أنه كما تجب المسارعة إلى المغفرة فكذلك تجب المسارعة إلى الجنة ، وإنما فصل بينهما لأن الغفران معناه إزالة العقاب ، والجنة معناها إيصال الثواب ، فجمع بينهما للإشعار بأنه لا بد للمكلف من تحصيل الأمرين ، فأما : فمعلوم أن ذلك ليس بحقيقة لأن نفس السماوات لا تكون عرضا للجنة ، فالمراد كعرض السماوات والأرض وهاهنا سؤالات . وصف الجنة بأن عرضها السماوات
[ ص: 6 ] السؤال الأول : ما معنى أن عرضها مثل عرض السماوات والأرض وفيه وجوه :
الأول : أن المراد لو جعلت السماوات والأرضون طبقا طبقا بحيث يكون كل واحدة من تلك الطبقات سطحا مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ ، ثم وصل البعض بالبعض طبقا واحدا لكان ذلك مثل عرض الجنة ، وهذا غاية في السعة لا يعلمها إلا الله .
والثاني : أن الجنة التي يكون عرضها مثل عرض السماوات والأرض إنما تكون للرجل الواحد ؛ لأن الإنسان إنما يرغب فيما يصير ملكا ، فلا بد وأن تكون الجنة المملوكة لكل واحد مقدارها هذا .
الثالث : قال أبو مسلم : وفيه وجه آخر وهو أن الجنة لو عرضت بالسماوات والأرض على سبيل البيع لكانتا ثمنا للجنة ، تقول إذا بعت الشيء بالشيء الآخر : عرضته عليه وعارضته به ، فصار العرض يوضع موضع المساواة بين الشيئين في القدر ، وكذا أيضا معنى القيمة لأنها مأخوذة من مقاومة الشيء بالشيء حتى يكون كل واحد منهما مثلا للآخر .
الرابع : المقصود المبالغة في وصف سعة الجنة وذلك لأنه لا شيء عندنا أعرض منهما ونظيره قوله : ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ) [هود : 107] فإن أطول الأشياء بقاء عندنا هو السماوات والأرض ، فخوطبنا على وفق ما عرفناه ، فكذا هاهنا .
السؤال الثاني : لم خص العرض بالذكر ؟ .
والجواب فيه وجهان :
الأول : أنه لما كان العرض ذلك فالظاهر أن الطول يكون أعظم ونظيره قوله : ( بطائنها من إستبرق ) [الرحمن : 54] وإنما ذكر البطائن ؛ لأن من المعلوم أنها تكون أقل حالا من الظهارة ، فإذا كانت البطانة هكذا فكيف الظهارة ؟ فكذا هاهنا إذا كان العرض هكذا فكيف الطول ؟ .
والثاني : قال القفال : ليس المراد بالعرض هاهنا ما هو خلاف الطول ، بل هو عبارة عن السعة كما تقول العرب : بلاد عريضة ، ويقال هذه دعوى عريضة ، أي : واسعة عظيمة ، والأصل فيه أن ما اتسع عرضه لم يضق ، وما ضاق عرضه دق ، فجعل العرض كناية عن السعة .
السؤال الثالث : أنتم تقولون : الجنة في السماء فكيف يكون عرضها كعرض السماء ؟
والجواب من وجهين :
الأول : أن المراد من قولنا : إنها فوق السماوات وتحت العرش ، قال عليه السلام : في صفة الفردوس " سقفها عرش الرحمن " وروي هرقل سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال : إنك تدعو إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين فأين النار ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار ؟ . أن رسول
والمعنى والله أعلم أنه إذا دار الفلك حصل النهار في جانب من العالم والليل في ضد ذلك الجانب ، فكذا الجنة في جهة العلو والنار في جهة السفل ، وسئل عن الجنة أفي الأرض أم في السماء ؟ فقال : وأي أرض وسماء تسع الجنة ، قيل فأين هي ؟ قال : فوق السماوات السبع تحت العرش . أنس بن مالك
والوجه الثاني : أن الذين يقولون الجنة والنار غير مخلوقتين الآن ، بل الله تعالى يخلقهما بعد قيام القيامة ، فعلى هذا التقدير لا يبعد أن تكون الجنة مخلوقة في مكان السماوات والنار في مكان الأرض ، والله أعلم .
أما قوله : ( أعدت للمتقين ) فظاهره يدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن وقد سبق تقرير ذلك