( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون )
قوله تعالى : ( ياأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون )
اعلم أن علماء اليهود والنصارى كانت لهم حرفتان إحداهما : أنهم كانوا يكفرون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - مع أنهم كانوا يعلمون بقلوبهم أنه رسول حق من عند الله ، والله تعالى نهاهم عن هذه الحرفة في الآية الأولى .
وثانيتهما : أنهم كانوا يجتهدون في إلقاء الشبهات ، وفي إخفاء الدلائل والبينات ، والله تعالى نهاهم عن هذه الحرفة في هذه الآية الثانية ، فالمقام الأول مقام الغواية والضلالة ، والمقام الثاني مقام الإغواء والإضلال ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرئ " تلبسون " بالتشديد ، وقرأ " تلبسون " بفتح الباء ، أي تلبسون الحق مع الباطل ، كقوله عليه السلام : " يحيى بن وثاب " وقوله : كلابس ثوبي زور
إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا
المسألة الثانية : اعلم أن لا سبيل له إلى ذلك إلا من أحد وجهين : الساعي في إخفاء الحق
إما بإلقاء شبهة تدل على الباطل ، وإما بإخفاء الدليل الذي يدل على الحق ، فقوله : ( لم تلبسون الحق بالباطل ) إشارة إلى المقام الأول ، وقوله : ( وتكتمون الحق ) إشارة إلى المقام الثاني ، أما لبس الحق بالباطل فإنه يحتمل هاهنا وجوها :
أحدها : تحريف التوراة ، فيخلطون المنزل بالمحرف ، عن الحسن وابن زيد .
وثانيها : أنهم تواضعوا على ، تشكيكا للناس ، عن إظهار الإسلام أول النهار ، ثم الرجوع عنه في آخر النهار ابن عباس وقتادة .
وثالثها : أن يكون في التوراة ما يدل على نبوته - صلى الله عليه وسلم - من البشارة والنعت والصفة ويكون في التوراة أيضا ما يوهم خلاف ذلك ، فيكون كالمحكم والمتشابه فيلبسون على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر كما يفعله كثير من المشبهة ، وهذا قول القاضي .
ورابعها : أنهم كانوا محمد معترف بأن موسى - عليه السلام - حق ، ثم إن التوراة دالة على أن شرع - موسى عليه السلام - لا ينسخ وكل ذلك إلقاء للشبهات . يقولون
أما قوله تعالى : ( وتكتمون الحق ) ، فالمراد أن الآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - كان الاستدلال بها مفتقرا إلى التفكر والتأمل ، والقوم كانوا يجتهدون في إخفاء تلك الألفاظ التي كان بمجموعها يتم هذا الاستدلال مثل ما أن أهل البدعة في زماننا يسعون في أن لا يصل إلى عوامهم دلائل المحققين .
أما قوله ( وأنتم تعلمون ) ففيه وجوه :
أحدها : أنكم تعلمون أنكم إنما تفعلون ذلك عنادا وحسدا .
وثانيها : ( وأنتم تعلمون ) أي أنتم أرباب العلم والمعرفة لا أرباب الجهل والخرافة .
وثالثها : ( وأنتم تعلمون ) أن عقاب من يفعل مثل هذه الأفعال عظيم .
المسألة الثالثة : قال القاضي : قوله تعالى : ( لم تكفرون ) ، و ( لم تلبسون الحق بالباطل ) دال على أن ذلك فعلهم ؛ لأنه لا يجوز أن يخلقه فيهم ، ثم يقول : لم فعلتم ؟
وجوابه : أن الفعل يتوقف على الداعية ، فتلك الداعية إن حدثت لا لمحدث لزم نفي الصانع ، وإن كان محدثها هو العبد افتقر إلى إرادة أخرى وإن كان محدثها هو الله تعالى لزمكم ما ألزمتموه علينا والله أعلم .