ثم قال تعالى : ( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : السعي بالفساد في خفية ومداجاة ، قال أصل المكر في اللغة الزجاج : يقال مكر الليل ، وأمكر إذا أظلم ، وقال الله تعالى : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ) [ الأنفال : 30 ] وقال : ( وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ) [ يوسف : 102 ] وقيل أصله من اجتماع الأمر وإحكامه ، ومنه امرأة ممكورة ؛ أي مجتمعة الخلق . وإحكام الرأي يقال له : الإجماع والجمع قال الله تعالى : ( فأجمعوا أمركم وشركاءكم ) [ يونس : 71 ] فلما كان المكر رأيا محكما قويا مصونا عن جهات النقص والفتور ، لا جرم سمي مكرا .
المسألة الثانية : أما بعيسى -عليه السلام - ، فهو أنهم هموا بقتله ، وأما مكرهم ، ففيه وجوه : مكر الله تعالى بهم
الأول : مكر الله تعالى بهم هو أنه رفع عيسى - عليه السلام - إلى السماء ، وذلك أن يهودا ملك اليهود ، أراد قتل عيسى -عليه السلام - ، وكان جبريل -عليه السلام - ، لا يفارقه ساعة ، وهو معنى قوله : ( وأيدناه بروح القدس ) [ البقرة : 87 ] فلما أرادوا ذلك أمره جبريل - عليه السلام - أن يدخل بيتا فيه روزنة ، فلما دخلوا البيت أخرجه جبريل - عليه السلام - من تلك الروزنة ، وكان قد ألقى شبهه على غيره ، فأخذ وصلب فتفرق الحاضرون ثلاث فرق ، فرقة قالت : كان الله فينا فذهب ، وأخرى قالت : كان ابن الله ، والأخرى قالت : كان عبد الله ورسوله ، فأكرمه بأن رفعه إلى السماء ، وصار لكل فرقة جمع ؛ فظهرت الكافرتان على الفرقة المؤمنة إلى أن بعث الله تعالى محمدا - صلى الله عليه وسلم - . وفي الجملة ، فالمراد من مكر الله بهم أن رفعه إلى السماء وما مكنهم من إيصال الشر إليه .
الوجه الثاني : أن الحواريين كانوا اثني عشر ، وكانوا مجتمعين في بيت فنافق رجل منهم ، ودل اليهود عليه ، فألقى الله شبهه عليه ورفع عيسى ، فأخذوا ذلك المنافق الذي كان فيهم ، وقتلوه وصلبوه على ظن أنه عيسى -عليه السلام - ، فكان ذلك هو مكر الله بهم .
الوجه الثالث : ذكر أن محمد بن إسحاق اليهود عذبوا الحواريين بعد أن رفع عيسى عليه السلام [ ص: 59 ] فشمسوهم وعذبوهم ، فلقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم ، وكان ملك اليهود من رعيته فقيل له : إن رجلا من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله ، وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فقتل ، فقال : لو علمت ذلك لحلت بينه وبينهم ، ثم بعث إلى الحواريين ، فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام ، فأخبروه فتابعهم على دينهم ، وأنزل المصلوب فغيبه ، وأخذ الخشبة فأكرمها وصانها ، ثم غزا بني إسرائيل وقتل منهم خلقا عظيما ، ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم ، وكان اسم هذا الملك طباريس ، وهو صار نصرانيا ، إلا أنه ما أظهر ذلك ، ثم إنه جاء بعده ملك آخر ، يقال له : مطليس ، وغزا بيت المقدس بعد ارتفاع عيسى بنحو من أربعين سنة ، فقتل وسبى ولم يترك في مدينة بيت المقدس حجرا على حجر فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز ، فهذا كله مما جازاهم الله تعالى على تكذيب المسيح والهم بقتله .
القول الرابع : أن الله تعالى سلط عليهم ملك فارس حتى قتلهم ، وسباهم ، وهو قوله تعالى : ( بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد ) [ الإسراء : 5 ] فهذا هو مكر الله تعالى بهم .
القول الخامس : يحتمل أن يكون المراد أنهم مكروا في إخفاء أمره ، وإبطال دينه ، ومكر الله بهم حيث أعلى دينه وأظهر شريعته وقهر بالذل والدناءة أعداءه وهم اليهود ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : المكر عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر ، والاحتيال على الله تعالى محال فصار لفظ المكر في حقه من المتشابهات ، وذكروا في تأويله وجوها :
أحدها : أنه تعالى سمى جزاء المكر بالمكر ، كقوله : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ الشورى : 40 ] وسمى جزاء المخادعة بالمخادعة ، وجزاء الاستهزاء بالاستهزاء .
والثاني : أن معاملة الله معهم كانت شبيهة بالمكر فسمي بذلك .
الثالث : أن هذا اللفظ ليس من المتشابهات ؛ لأنه عبارة عن التدبير المحكم الكامل ثم اختص في العرف بالتدبير في إيصال الشر إلى الغير ، وذلك في حق الله تعالى غير ممتنع ، والله أعلم .