أما قال من أنصاري إلى الله ) ففيه مسألتان : قوله تعالى : (
[ ص: 55 ] المسألة الأولى : في الآية أقوال :
الأول : أن عيسى - عليه السلام - لما دعا بني إسرائيل إلى الدين ، وتمردوا عليه فر منهم وأخذ يسيح في الأرض فمر بجماعة من صيادي السمك ، وكان فيهم شمعون ويعقوب ويوحنا ابنا زيدي وهم من جملة الحواريين الاثني عشر فقال عيسى - عليه السلام - : الآن تصيد السمك ، فإن تبعتني صرت بحيث تصيد الناس لحياة الأبد ، فطلبوا منه المعجزة ، وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة في الماء فما اصطاد شيئا فأمره عيسى بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى ، فاجتمع في تلك الشبكة من السمك ما كادت تتمزق منه ، واستعانوا بأهل سفينة أخرى ، وملأوا السفينتين ، فعند ذلك آمنوا بعيسى - عليه السلام - .
والقول الثاني : أن قوله : ( من أنصاري إلى الله ) إنما كان في آخر أمره حين اجتمع اليهود عليه طلبا لقتله ، ثم هاهنا احتمالات .
الأول : أن اليهود لما طلبوه للقتل وكان هو في الهرب عنهم قال لأولئك الاثني عشر من الحواريين : أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ؟ .
فأجابه إلى ذلك بعضهم وفيما تذكره النصارى في إنجيلهم : أن اليهود لما أخذوا عيسى سل شمعون سيفه فضرب به عبدا كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى بأذنه ، فقال له عيسى : حسبك ثم أخذ أذن العبد فردها إلى موضعها ، فصارت كما كانت ، والحاصل أن الغرض من طلب النصرة إقدامهم على دفع الشر عنه .
والاحتمال الثاني : أنه دعاهم إلى القتال مع القوم لقوله تعالى في سورة أخرى : ( فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ) [ الصف : 14 ] .
المسألة الثانية : قوله : ( إلى الله ) فيه وجوه :
الأول : التقدير : من أنصاري حال ذهابي إلى الله أو حال التجائي إلى الله .
والثاني : التقدير : من أنصاري إلى أن أبين أمر الله تعالى ، وإلى أن أظهر دينه ويكون " إلى " هاهنا غاية كأنه أراد من يثبت على نصرتي إلى أن تتم دعوتي ، ويظهر أمر الله تعالى .
الثالث : قال الأكثرون من أهل اللغة " إلى " هاهنا بمعنى " مع " قال تعالى : ( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) [ النساء : 2 ] أي معها ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : " الذود إلى الذود إبل " أي مع الذود .
قال الزجاج : كلمة " إلى " ليست بمعنى " مع " فإنك لو قلت ذهب زيد إلى عمرو لم يجز أن تقول : ذهب زيد مع عمرو ؛ لأن " إلى " تفيد الغاية و " مع " تفيد ضم الشيء إلى الشيء ، بل المراد من قولنا : إن " إلى " هاهنا بمعنى " مع " هو أنه يفيد فائدتها من حيث إن المراد من يضيف نصرته إلى نصرة الله إياي ، وكذلك المراد من قوله : ( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) [ النساء : 2 ] أي لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم ، وكذلك قوله - عليه السلام - : " الذود إلى الذود إبل " معناه : الذود مضموما إلى الذود إبل .
والرابع : أن يكون المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إليه ، وفي الحديث أي تقربا إليك ، ويقول الرجل لغيره عند دعائه إياه " إلي " أي انضم إلي ، فكذا هاهنا المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله تعالى . أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا ضحى " اللهم منك وإليك "
الخامس : أن يكون " إلى " بمعنى اللام كأنه قال : من أنصاري لله . نظيره قوله تعالى : ( قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق ) [ يونس : 35 ] .
والسادس : تقدير الآية : من أنصاري في سبيل الله ؛ و" إلى" بمعنى " في" جائز ، وهذا قول الحسن .