المسألة الثانية : اختلفوا في السكينة ، وضبط الأقوال فيها أن نقول : المراد بالسكينة إما أن يقال إنه كان شيئا حاصلا في التابوت أو ما كان كذلك .
والقسم الثاني : هو قول ، فإنه قال : ( أبي بكر الأصم آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم ) أي تسكنون عند مجيئه وتقرون له بالملك ، وتزول نفرتكم عنه ، لأنه متى جاءهم التابوت من السماء وشاهدوا تلك الحالة فلا بد وأن تسكن قلوبهم إليه وتزول نفرتهم بالكلية .
وأما القسم الأول : وهو أن المراد من السكينة شيء كان موضوعا في التابوت ، وعلى هذا ففيه أقوال :
الأول : وهو قول أبي مسلم أنه كان في التابوت بشارات من كتب الله تعالى المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء عليهم السلام ، بأن الله ينصر طالوت وجنوده ، ويزيل خوف العدو عنهم .
الثاني : وهو قول علي عليه السلام : كان لها وجه كوجه الإنسان ، وكان لها ريح هفافة .
والثالث : قول رضي الله عنهما : هي صورة من زبرجد أو ياقوت لها رأس كرأس الهر ، وذنب كذنبه ، فإذا صاحت كصياح الهر ذهب التابوت نحو العدو وهم يمضون معه فإذا وقف وقفوا ونزل النصر . ابن عباس
القول الرابع : وهو قول : إن السكينة التي كانت في التابوت شيء لا يعلم . عمرو بن عبيد
واعلم أن عبارة عن الثبات والأمن ، وهو كقوله في قصة الغار : ( السكينة فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) [ الفتح : 26 ] فكذا قوله تعالى : ( فيه سكينة من ربكم ) معناه الأمن والسكون .
واحتج القائلون بأنه حصل في التابوت شيء بوجهين :
الأول : أن قوله : ( فيه سكينة ) يدل على كون التابوت ظرفا للسكينة .
والثاني : وهو أنه عطف عليه قوله : ( وبقية مما ترك آل موسى ) فكما أن التابوت كان ظرفا للبقية وجب أن يكون ظرفا للسكينة .
والجواب عن الأول : أن كلمة ( في ) كما تكون للظرفية فقد تكون للسببية قال عليه الصلاة والسلام : " " وقال : " في النفس المؤمنة مائة من الإبل " أي بسببه فقوله في هذه الآية : ( في خمس من الإبل شاة فيه سكينة ) أي بسببه تحصل السكينة .
والجواب عن الثاني : لا يبعد أن يكون المراد بقية مما ترك آل موسى وآل هارون من الدين والشريعة ، والمعنى أن بسبب هذا التابوت ينتظم أمر ما بقي من دينهما وشريعتهما .
وأما القائلون بأن المراد بالبقية شيء كان موضوعا في التابوت فقالوا : البقية هي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة وقفيز من المن الذي كان ينزل عليهم .
أما قوله : ( آل موسى وآل هارون ) ففيه قولان :
الأول : قال بعض المفسرين : يحتمل أن يكون آل موسى وآل هارون هو المراد من موسى وهارون أنفسهما ، والدليل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : " لأبي موسى الأشعري داود " وأراد به لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود نفسه ، لأنه لم يكن لأحد من آل داود من الصوت الحسن مثل ما كان لداود عليه السلام .
والقول الثاني : قال القفال رحمه الله : إنما أضيف ذلك إلى آل موسى وآل هارون ، لأن ذلك التابوت [ ص: 152 ] قد تداولته القرون بعدهما إلى وقت طالوت ، وما في التابوت أشياء توارثها العلماء من أتباع موسى وهارون ، فيكون الآل هم الأتباع ، قال تعالى : ( أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) [ غافر : 46 ] .
وأما قوله : ( تحمله الملائكة ) فقد تقدم القول فيه .
وأما قوله : ( إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ) فالمعنى أن هذه الآية معجزة باهرة إن كنتم ممن يؤمن بدلالة المعجزة على صدق المدعي .