وقالت امرأة من العوابد : والله ، لو وهب الله لأهل الشوق إلى لقائه حالة لو فقدوها لسلبوا النعيم ، قيل لها : وما تلك الحالة ؟ قالت : استقلال الكثير من أنفسهم ، ويعجبون منها كيف صارت مأوى لتلك الفوائد ، وقيل لبعض العباد : أخبرنا عن شوقك إلى ربك ما وزنه في قلبك ؟ فقال العابد للسائل : لمثلي يقال هذا ؟ لا يمكن أن يوزن في القلب شيء إلا بحضرة النفس ، وإن النفس إذا حضرت أمرا في القلب من ميراث القربة قذفت فيه أسباب الكدورات ، وقيل لمضر القارئ : ؟ فقال : هذه مسألة لا أجيب فيها ، ما اطلعت النفس على شيء قط إلا أفسدته ، وأنشدني الخوف أولى بالمحب أم الشوق عبد العزيز بن عبد الله في ذلك يقول :
[ ص: 79 ]
الخوف أولى بالمسيء إذا ناله الحزن والحب يحسن بالمطيع
وبالنقي من الدرن والشوق للنجباء والأبدا
ل عن ذوي الفطن
فلذلك قيل : الحب هو الشوق لأنك لا تشتاق إلا إلى حبيب ، فلا فرق بين الحب والشوق إذا كان الشوق فرعا من فروع الحب الأصلي ، وقيل : إن الحب يعرف بشواهده على أبدان المحبين وفي ألفاظهم ، وكثرة الفوائد عندهم لدوام الاتصال بحبيبهم ، فإذا واصلهم الله أفادهم ، فإذا ظهرت الفوائد عرفوا بالحب لله ، ليس للحب شبح ماثل ولا صورة فيعرف بجبلته وصورته ، وإنما يعرف المحب بأخلاقه وكثرة الفوائد التي يجريها الله على لسانه بحسن الدلالة عليه ، وما يوحى إلى قلبه ، فكلما ثبتت أصول الفوائد في قلبه نطق اللسان بفروعها ، فالفوائد من الله واصلة إلى قلوب محبيه ، فأبين شواهد المحبة لله شدة النحول بدوام الفكر ، وطول السهر بسخاء الأنفس على الأنفس بالطاعة ، وشدة المبادرة خوف المعاجلة ، والنطق بالمحبة على قدر نور الفائدة ، فلذلك قيل : إن حلول الفوائد من الله بقلوب من اختصه الله بمحبته ، وأنشد بعض العلماء : علامة الحب لله
وله خصائص يكلفون بحبه اختارهم في سالف الأزمان
اختارهم من قبل فطرة خلقهم بودائع وفوائد وبيان
فالحب لله في نفسه استنارة القلب بالفرح لقربه من حبيبه ، فإذا استنار القلب بالفرح استلذ الخلوة بذكر حبيبه ، فالحب هائج غالب ، والخوف لقلبه لازم لا هائج ، إلا أنه قد ماتت منه شهوة كل معصية ، وهدي لأركان شدة الخوف ، وحل الأنس بقلبه لله ، فعلامة الأنس استثقال كل أحد سوى الله ، فإذا ألف الخلوة بمناجاته حبيبه استغرقت حلاوة المناجاة العقل كله حتى لا يقدر أن يعقل الدنيا وما فيها ، ومن ذلك قول ضيغم العابد : " عجبا للخليقة كيف استنارت قلوبهم بذكر غيرك " ؟ وحدثني أبو محمد ، قال : " أوحى الله تعالى إلى داود - عليه السلام - : يا داود ، إن ، وللروحانية علم ، [ ص: 80 ] هو أن لا يغتموا ، وأنا مصباح قلوبهم ، يا محبتي في خلقي أن يكونوا روحانيين داود ، لا تمزج الغم قلبك فينقص ميراث حلاوة الروحانيين ، يا داود ، هممت للخبز أن تأكله وأنت تريدني ، وتزعم أنك منقطع إلي ، تدعي محبتي ، وأنك قد أحببتني ، وأنت تسيء الظن بي ، أما كان لك علم فيما بيني وبينك أن كشفت لك الغطاء عن سبع أرضين حتى أريتك دودة في فيها برة تحت سبع أرضين ، حتى تهتم بالرزق ، يا داود ، وهو محبتي ، يا أقر لي بالعبودية أمنحك ثواب العبودية داود ، تواضع لمن تعلمه ، ولا تتطاول على المريدين ، فلو يعلم أهل محبتي ما قدر المريدين عندي لكانوا للمريدين أرضا يمشون عليها ، وللحسوا أقدامهم ، يا داود ، إذا رأيت لي طالبا فكن له خادما ، واصبر على المؤونة تأتك المعونة ، يا داود ، لأن يخرج على يديك عبد ممن أسكره حب الدنيا حتى تستنقذه من سكرة ما هو فيه سميتك عندي جهبذا ، ومن كان جهبذا لم تكن به فاقة ولا وحشة إلى أحد من خلقي ، يا داود ، من لقيني وهو يحبني أدخلته جنتي " .
أخبرني أبو بكر محمد بن أحمد - في كتابه قبل أن لقيته - وحدثني عنه عثمان بن محمد العثماني ، حدثني أبو عبد الله أحمد بن عبد الله بن ميمون ، قال : سمعت ، يقول : " الحارث بن أسد المحاسبي أن تصبر أبدانهم على الدون ، وأن تخلص لهم النيات من فسادها ، ومنهم من يريد في الدنيا شواهد الكرامات عند سرعة الإجابة ، وغاية أملهم في الآخرة أن ينعمهم بنظره إليهم ، فنعيمها الإسفار وكشف الحجاب حتى لا يمارون في رؤيته ، والله ليفعلن ذلك بهم إذا استزارهم إليه " . علامة أهل الصدق من المحبين وغاية أملهم في الدنيا
وحدثني بعض العلماء ، قال : " أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء عليهم السلام : ، وما يكابد المكابدون في طلب مرضاتي ، فكيف إذا صاروا إلى جواري ، واستزرتهم للمقعد عندي ، أسفرت لهم عن وجهي ، فهنالك فليبشر المصفون للرحمن أعمالهم بالنظر العجيب من الحبيب القريب ، أتراني أنسى لهم عملا ؟ كيف وأنا ذو الفضل العظيم ؟ أجود على المولين عني ، فكيف بالمقبلين علي ؟ وما غضبت على شيء كغضبي على من أخطأ خطيئة ثم استعظمها في جنب عفوي ، ولو [ ص: 81 ] عاجلت أحدا بالعقوبة لعاجلت القانطين من رحمتي ، ولو يراني عبادي كيف أستوهبهم ممن اعتدوا عليهم بالظلم في دار الدنيا ثم أوجبت لمن وهبهم النعيم المقيم لما اتهموا فضلي وكرمي ، ولو لم أشكر عبادي إلا على خوفهم من المقام بين يدي لشكرتهم على ذلك ، ولو يراني عبادي كيف أرفع قصورا تحار فيها الأبصار فيقال : لمن هذه ؟ فأقول : لمن عصاني ولم يقطع رجاء مني ، فأنا الديان الذي لا تحل معصيتي ، ولا حاجة بي إلى هوان من خاف مقامي " . بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي