بيان
nindex.php?page=treesubj&link=19688مشارطة النفس
إذا أصبح العبد وفرغ من فريضة الصبح ينبغي أن يفرغ قلبه لمشارطة النفس فيقول لها :
[ ص: 306 ] ما لي بضاعة إلا العمر ، ومهما فني فقد فني رأس المال ووقع اليأس عن التجارة وطلب الربح ، وهذا اليوم الجديد قد أمهلني الله فيه وأنسأ في أجلي وأنعم علي به ، ولو توفاني لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا يوما واحدا حتى أعمل فيه صالحا ، فاحسبي أنك قد توفيت ثم قد رددت فإياك ثم إياك أن تضيعي هذا اليوم ، فإن كل نفس من الأنفاس جوهرة لا قيمة ، لها فلا تميلي إلى الكسل والدعة والاستراحة فيفوتك من درجات عليين ما يدركه غيرك وتبقى عندك حسرة لا تفارقك ، وإن دخلت الجنة فألم الغبن وحسرته لا يطاق ، وقد قال بعضهم : " هب أن المسيء قد عفي عنه أليس قد فاته ثواب المحسنين " أشار به إلى الغبن والحسرة ، وقال الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=9يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ) [ التغابن : 9 ] فهذه وصيته لنفسه في أوقاته . ثم ليستأنف لها وصية في أعضائه السبعة وهي : العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل ، فيوصيها بحفظها عن معاصيها .
أما العين : فيحفظها عن النظر إلى وجه من ليس له بمحرم أو إلى عورة مسلم أو النظر إلى مسلم بعين الاحتقار ، ثم إذا صرفها عن هذا لم يقنع به حتى يشغلها بما فيه تجارتها وربحها وهو ما خلقت له من
nindex.php?page=treesubj&link=19784النظر إلى عجائب صنع الله بعين الاعتبار ، والنظر إلى أعمال الخير للاقتداء ، والنظر في كتاب الله وسنة رسوله ، ومطالعة كتب الحكمة للاتعاظ والاستفادة .
وهكذا ينبغي أن يفصل الأمر عليها في عضو عضو لا سيما اللسان والبطن .
أما اللسان : فلأنه منطلق بالطبع ولا مؤونة عليه في الحركة ، وجنايته عظيمة بالغيبة ، والكذب ، والنميمة ، وتزكية النفس ، ومذمة الخلق ، والأطعمة ، واللعن ، والدعاء على الأعداء ، والمماراة في الكلام ، وغير ذلك مما ذكرناه في كتاب آفات اللسان ، فهو بصدد ذلك كله مع أنه خلق للذكر والتذكير ، وتكرار العلم والتعليم ، وإرشاد عبد الله إلى طريق الله ، وإصلاح ذات البين ، وسائر خيراته .
وأما البطن : فيكلفه ترك الشره وتقليل الأكل من الحلال واجتناب الشبهات ، ويمنعه من الشهوات . وهكذا يشرط عليها في جميع الأعضاء ، واستقصاء ذلك يطول ، ولا تخفى معاصي الأعضاء وطاعتها ، ثم يستأنف وصيتها في وظائف الطاعات التي تتكرر عليه في اليوم والليلة وكيفية الاستعداد لها بأسبابها ، وكذا فيمن يشتغل بشيء من أعمال الدنيا من ولاية أو تجارة أو تدريس ، قلما يخلو يوم عن مهم جديد وواقعة جديدة يحتاج إلى أن يقضي حق الله فيها ، فعليه أن يشترط على نفسه الاستقامة فيها والانقياد للحق في مجاريها ، ويحذرها مغبة الإهمال ، ويعظها كما يوعظ العبد الآبق المتمرد ، فإن النفس بالطبع متمردة عن الطاعات مستعصية عن العبودية ، ولكن الوعظ والتأديب يؤثر فيها : (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=55وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) [ الذاريات : 55 ] .
بَيَانُ
nindex.php?page=treesubj&link=19688مُشَارَطَةِ النَّفْسِ
إِذَا أَصْبَحَ الْعَبْدُ وَفَرَغَ مِنْ فَرِيضَةِ الصُّبْحِ يَنْبَغِي أَنْ يُفَرِّغَ قَلْبَهُ لِمُشَارَطَةِ النَّفْسِ فَيَقُولَ لَهَا :
[ ص: 306 ] مَا لِي بِضَاعَةٌ إِلَّا الْعُمُرُ ، وَمَهْمَا فَنِيَ فَقَدْ فَنِيَ رَأْسُ الْمَالِ وَوَقَعَ الْيَأْسُ عَنِ التِّجَارَةِ وَطَلَبِ الرِّبْحِ ، وَهَذَا الْيَوْمُ الْجَدِيدُ قَدْ أَمْهَلَنِي اللَّهُ فِيهِ وَأَنْسَأَ فِي أَجْلِي وَأَنْعَمَ عَلَيَّ بِهِ ، وَلَوْ تَوَفَّانِي لَكُنْتُ أَتَمَنَّى أَنْ يُرْجِعَنِي إِلَى الدُّنْيَا يَوْمًا وَاحِدًا حَتَّى أَعْمَلَ فِيهِ صَالِحًا ، فَاحْسَبِي أَنَّكِ قَدْ تُوُفِّيتِ ثُمَّ قَدْ رُدِدْتِ فَإِيَّاكِ ثُمَّ إِيَّاكِ أَنْ تُضَيِّعِي هَذَا الْيَوْمَ ، فَإِنَّ كُلَّ نَفَسٍ مِنَ الْأَنْفَاسِ جَوْهَرَةٌ لَا قِيمَةَ ، لَهَا فَلَا تَمِيلِي إِلَى الْكَسَلِ وَالدَّعَةِ وَالِاسْتِرَاحَةِ فَيَفُوتَكِ مِنْ دَرَجَاتِ عِلِّيِّينَ مَا يُدْرِكُهُ غَيْرُكِ وَتَبْقَى عِنْدَكِ حَسْرَةٌ لَا تُفَارِقُكِ ، وَإِنْ دَخَلْتِ الْجَنَّةَ فَأَلَمُ الْغَبْنِ وَحَسْرَتُهُ لَا يُطَاقُ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : " هَبْ أَنَّ الْمُسِيءَ قَدْ عُفِيَ عَنْهُ أَلَيْسَ قَدْ فَاتَهُ ثَوَابُ الْمُحْسِنِينَ " أَشَارَ بِهِ إِلَى الْغَبْنِ وَالْحَسْرَةِ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=9يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ) [ التَّغَابُنِ : 9 ] فَهَذِهِ وَصِيَّتُهُ لِنَفْسِهِ فِي أَوْقَاتِهِ . ثُمَّ لْيَسْتَأْنِفْ لَهَا وَصِيَّةً فِي أَعْضَائِهِ السَّبْعَةِ وَهِيَ : الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ وَاللِّسَانُ وَالْبَطْنُ وَالْفَرْجُ وَالْيَدُ وَالرِّجْلُ ، فَيُوصِيَهَا بِحِفْظِهَا عَنْ مَعَاصِيهَا .
أَمَّا الْعَيْنُ : فَيَحْفَظُهَا عَنِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ مَنْ لَيْسَ لَهُ بِمَحْرَمٍ أَوْ إِلَى عَوْرَةِ مُسْلِمٍ أَوِ النَّظَرِ إِلَى مُسْلِمٍ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ ، ثُمَّ إِذَا صَرَفَهَا عَنْ هَذَا لَمْ يَقْنَعْ بِهِ حَتَّى يَشْغَلَهَا بِمَا فِيهِ تِجَارَتُهَا وَرِبْحُهَا وَهُوَ مَا خُلِقَتْ لَهُ مِنَ
nindex.php?page=treesubj&link=19784النَّظَرِ إِلَى عَجَائِبِ صُنْعِ اللَّهِ بِعَيْنِ الِاعْتِبَارِ ، وَالنَّظَرِ إِلَى أَعْمَالِ الْخَيْرِ لِلِاقْتِدَاءِ ، وَالنَّظَرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، وَمُطَالَعَةِ كُتُبِ الْحِكْمَةِ لِلِاتِّعَاظِ وَالِاسْتِفَادَةِ .
وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَصَّلَ الْأَمْرُ عَلَيْهَا فِي عُضْوٍ عُضْوٍ لَا سِيَّمَا اللِّسَانُ وَالْبَطْنُ .
أَمَّا اللِّسَانُ : فَلِأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ بِالطَّبْعِ وَلَا مَؤُونَةَ عَلَيْهِ فِي الْحَرَكَةِ ، وَجِنَايَتُهُ عَظِيمَةٌ بِالْغِيبَةِ ، وَالْكَذِبِ ، وَالنَّمِيمَةِ ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ ، وَمَذَمَّةِ الْخَلْقِ ، وَالْأَطْعِمَةِ ، وَاللَّعْنِ ، وَالدُّعَاءِ عَلَى الْأَعْدَاءِ ، وَالْمُمَارَاةِ فِي الْكَلَامِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَّرْنَاهُ فِي كِتَابِ آفَاتِ اللِّسَانِ ، فَهُوَ بِصَدَدِ ذَلِكَ كُلِّهِ مَعَ أَنَّهُ خُلِقَ لِلذِّكْرِ وَالتَّذْكِيرِ ، وَتَكْرَارِ الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ ، وَإِرْشَادِ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى طَرِيقِ اللَّهِ ، وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ ، وَسَائِرِ خَيْرَاتِهِ .
وَأَمَّا الْبَطْنُ : فَيُكَلِّفُهُ تَرْكَ الشَّرَهِ وَتَقْلِيلَ الْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ وَاجْتِنَابِ الشُّبُهَاتِ ، وَيَمْنَعُهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ . وَهَكَذَا يَشْرِطُ عَلَيْهَا فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ ، وَاسْتِقْصَاءُ ذَلِكَ يَطُولُ ، وَلَا تَخْفَى مَعَاصِي الْأَعْضَاءِ وَطَاعَتُهَا ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ وَصِيَّتَهَا فِي وَظَائِفِ الطَّاعَاتِ الَّتِي تَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَكَيْفِيَّةِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا بِأَسْبَابِهَا ، وَكَذَا فِيمَنْ يَشْتَغِلُ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الدُّنْيَا مِنْ وِلَايَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ تَدْرِيسٍ ، قَلَّمَا يَخْلُو يَوْمٌ عَنْ مُهِمٍّ جَدِيدٍ وَوَاقِعَةٍ جَدِيدَةٍ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَقْضِيَ حَقَّ اللَّهِ فِيهَا ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى نَفْسِهِ الِاسْتِقَامَةَ فِيهَا وَالِانْقِيَادَ لِلْحَقِّ فِي مَجَارِيهَا ، وَيُحَذِّرَهَا مَغَبَّةَ الْإِهْمَالِ ، وَيَعِظَهَا كَمَا يُوعَظُ الْعَبْدُ الْآبِقُ الْمُتَمَرِّدُ ، فَإِنَّ النَّفْسَ بِالطَّبْعِ مُتَمَرِّدَةٌ عَنِ الطَّاعَاتِ مُسْتَعْصِيَةٌ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ ، وَلَكِنَّ الْوَعْظَ وَالتَّأْدِيبَ يُؤَثِّرُ فِيهَا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=55وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) [ الذَّارِيَاتِ : 55 ] .