الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  معلومات الكتاب

                                                                  موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

                                                                  القاسمي - محمد جمال الدين القاسمي

                                                                  الحق الثامن التخفيف وترك التكلف والتكليف :

                                                                  وذلك بأن لا يكلف أخاه ما يشق عليه بل يروح سره من مهماته وحاجاته ويرفهه على أن يحمله شيئا من أعبائه ، فلا يكلفه القيام بحقوقه ، بل لا يقصد بمحبته إلا الله تعالى استعانة به على دينه واستئناسا بلقائه وتقربا إلى الله تعالى بالقيام بحقوقه وتحمل مؤنته .

                                                                  قال بعضهم : " من اقتضى من إخوانه ما لا يقتضونه منه فقد ظلمهم ، ومن اقتضى منهم مثل ما يقتضونه فقد أتبعهم ، ومن لم يقتض فهو المتفضل عليهم " ، وتمام التخفيف بطي بساط التكليف حتى لا يستحيي منه فيما لا يستحيي منه نفسه .

                                                                  وقال " علي " رضي الله عنه : " شر الأصدقاء من تكلف لك ومن تكلف لك ، ومن أحوجك إلى مداراة وألجأك إلى اعتذار" .

                                                                  وقال " الفضل " : " إنما تقاطع الناس بالتكلف ، يزور أحدهم أخاه فيتكلف له فيقطعه ذلك عنه " .

                                                                  وكان " جعفر بن محمد الصادق " رضي الله عنهما يقول : " أثقل إخواني علي من يتكلف وأتحفظ منه ، وأخفهم على قلبي من أكون معه كما أكون وحدي " .

                                                                  ومن التخفيف وترك التكلف : أن لا يعترض في نوافل العبادات ، كان طائفة من الصوفية يصطحبون على أن أحدهم إن أكل النهار كله لم يقل له صاحبه : صم ، وإن صام الدهر كله لم يقل له : أفطر ، وإن نام الليل كله لم يقل له : قم ، وإن صلى الليل كله لم يقل له : نم ، وتستوي حالاته عنده بلا مزيد ولا نقصان .

                                                                  وقد قيل : " من سقطت كلفته دامت ألفته ، ومن خفت مؤنته دامت مودته " .

                                                                  وقال بعضهم : " إذا عمل الرجل في بيت أخيه أربع خصال فقد تم أنسه به : إذا أكل عنده ودخل الخلاء وصلى ونام " ، فذكر ذلك لبعض المشايخ فقال : " بقيت خامسة وهو أن يحضر مع الأهل في بيت أخيه " لأن البيت يتخذ للاستخفاء في هذه الأمور الخمس ، وإلا فالمساجد أروح لصلاة المتعبدين ، فإذا فعل هذه الخمس فقد تم الإخاء وارتفعت الحشمة وتأكد الانبساط .

                                                                  وقول العرب في تسليمهم يشير إلى ذلك إذ يقول أحدهم [ ص: 139 ] لصاحبه : " مرحبا أهلا وسهلا " أي لك عندنا مرحب وهو السعة في القلب والمكان ، ولك عندنا أهل تأنس بهم بلا وحشة لك منا ، ولك عندنا سهولة في ذلك كله أي لا يشتد علينا شيء مما تريد .

                                                                  ولا يتم التخفيف وترك التكلف إلا بأن يرى نفسه دون إخوانه ويحسن الظن بهم ويسيء الظن بنفسه ، ولا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له ، فهذه أقل الدرجات وهو النظر بعين المساواة والكمال في رؤية الفضل للأخ ، ومهما رأى الفضل لنفسه فقد احتقر أخاه وهذا في عموم المسلمين مذموم ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم " .

                                                                  ومن تتمة الانبساط وترك التكلف أن يشاور إخوانه في كل ما يقصده ويقبل إشارتهم فقد قال تعالى : ( وشاورهم في الأمر ) [ آل عمران : 159 ] فهذا جامع حقوق الصحبة ، ولا يتم ذلك إلا بأن تنزل نفسك منزلة الخادم لهم فتقيد بحقوقهم جميع جوارحك .

                                                                  أما البصر : فبأن تنظر إليهم نظر مودة يعرفونها منك وتنظر إلى محاسنهم وتتعامى عن عيوبهم ، ولا تصرف بصرك عنهم في وقت إقبالهم عليك وكلامهم معك ، روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعطي كل من جلس إليه نصيبا من وجهه لا يظن جليسه إلا أنه أكرم الناس عليه ، وكان عليه السلام أكثر الناس تبسما وضحكا في وجوه أصحابه وتعجبا مما يحدثونه .

                                                                  وأما السمع : فبأن تسمع كلامهم متلذذا بسماعه ومصدقا به ومظهرا للاستبشار به ، ولا تقطع حديثهم عليهم بمرادة ولا منازعة ومداخلة واعتراض ، فإن أرهقك عارض اعتذرت إليهم .

                                                                  وأما اللسان : فقد ذكرنا حقوقه ، ومن ذلك أن لا يرفع صوته عليهم ، ولا يخاطبهم إلا بما يفقهون .

                                                                  وأما اليدان : فأن لا يقبضهما عن معاونتهم في كل ما يتعاطى باليد .

                                                                  وأما بالرجلان : فبأن لا يتقدمهم إلا بقدر ما يقدمونه ولا يقرب منهم إلا بقدر ما يقربونه ، ويقوم لهم إذا أقبلوا ولا يقعد إلا بقعودهم ، ويقعد متواضعا حيث يقعد .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية