وأيضا : فإن لا يكون إلا إذا سكن حين انحنائه ، وحين وضع وجهه على الأرض ، فأما مجرد الخفض والرفع عنه فلا يسمى ذلك ركوعا ولا سجودا ، ومن سماه ركوعا وسجودا فقد غلط على اللغة ، فهو مطالب بدليل من اللغة على أن هذا يسمى راكعا وساجدا حتى يكون فاعله ممتثلا للأمر وحتى يقال : إن هذا الأمر المطالب به يحصل الامتثال فيه بفعل ما يتناوله الاسم ؛ فإن هذا لا يصح حتى يعلم أن مجرد هذا يسمى في اللغة ركوعا وسجودا ، وهذا مما لا سبيل إليه ولا دليل عليه ، فقائل ذلك قائل بغير علم في كتاب الله وفي لغة العرب ، وإذا الركوع والسجود في لغة العرب ؟ لم يكن ممتثلا بالاتفاق ؛ لأن الوجوب معلوم وفعل الواجب ليس بمعلوم ، كمن يتيقن وجوب صلاة أو زكاة عليه ويشك في فعلها . حصل الشك هل هذا ساجد أو ليس بساجد
وهذا أصل ينبغي معرفته ، فإنه يحسم مادة المنازع الذي يقول : إن هذا يسمى ساجدا وراكعا في اللغة ؛ فإنه قال بلا علم ولا حجة ، وإذا طولب بالدليل انقطع وكانت الحجة لمن يقول : ما نعلم براءة ذمته إلا بالسجود والركوع المعروفين ، ثم يقال : لو وجد استعمال لفظ الركوع والسجود في لغة العرب بمجرد ملاقاة الوجه للأرض بلا طمأنينة ، لكان المعفر خده [ ص: 88 ] ساجدا ولكان الراغم أنفه - وهو الذي لصق أنفه بالرغام وهو التراب - ساجدا ، لا سيما عند المنازع الذي يقول : يحصل السجود بوضع الأنف دون الجبهة من غير طمأنينة ، فيكون نقر الأرض بالأنف سجودا ، ومعلوم أن هذا ليس من لغة القوم ، كما أنه ليس من لغتهم تسمية نقرة الغراب ونحوها سجودا ، ولو كان كذلك لكان يقال للذي يضع وجهه على الأرض ليمص شيئا على الأرض أو يعضه أو ينقله ونحو ذلك : ساجدا .
وأيضا : فإن الله أوجب المحافظة والإدامة على الصلاة ، وذم إضاعتها والسهو عنها ، فقال في أول سورة المؤمنون : ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون ) وقد سبق بيان أن هذه الخصال واجبة .
وكذلك في سورة سأل سائل قال : ( إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون ) فذم الإنسان كله إلا ما استثناه ، فمن لم يكن متصفا بما استثناه كان مذموما ، كما في قوله تعالى : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) [ ص: 89 ] [ العصر ] ، وقال تعالى : ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ) [ مريم ] وقال تعالى : ( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون ) ، وقال تعالى : ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين [ البقرة ] وهذه الآيات تقتضي ذم من ، وإن كان في الظاهر مصليا مثل أن يترك الوقت الواجب أو يترك تكميل الشرائط والأركان من الأعمال الظاهرة والباطنة ، وبذلك فسرها السلف ، ففي تفسير ترك شيئا من واجبات الصلاة - وذكره عن عبد بن حميد ابن المنذر في تفسيره - من حديث عبد حدثنا روح عن سعيد عن قتادة ( والذين هم على صلواتهم يحافظون ) : على وضوئها ومواقيتها وركوعها .
وروى في تفسيره من حديث أبو بكر بن المنذر أبي عبد الرحمن بن عبد الله قال : " قيل لعبد الله : إن الله أكثر : ( ذكر الصلاة في القرآن الذين هم على صلاتهم دائمون ) و ( الذين هم في صلاتهم خاشعون ) ، ( والذين هم على صلاتهم يحافظون ) فقال عبد الله : ذلك على مواقيتها ، فقالوا : ما كنا نرى ذلك يا أبا عبد الرحمن إلا الترك ، قال : تركها كفر " .
وروى : حدثنا سعيد بن منصور أبو معاوية ، حدثنا ، عن الأعمش ، عن مسلم مسروق " في قول الله : ( والذين هم على صلاتهم يحافظون ) ، قال : على مواقيتها ، فقالوا : ما كنا نرى ذلك يا أبا عبد الرحمن ، إلا [ ص: 90 ] الترك ، قال : تركها كفر " ، وروي من حديث ( سعيد بن أبي مريم الذين هم عن صلاتهم ساهون ) بتضييع ميقاتها ، وروي عن عن أبي ثور في قوله : ( ابن جريج والذين هم على صلاتهم يحافظون ) المكتوبة ، والتي في سأل سائل : التطوع ، وهذا قول ضعيف .