ومما يتصل بحال قيام العدة عن الطلاق من الأحكام .
منها وجملة الكلام فيه أن المعتدة لا تخلو إما إن كانت من طلاق رجعي وإما إن كانت من طلاق بائن أو ثلاث والحال لا يخلو إما إن كانت حال الصحة وإما إن كانت حال المرض فإن كانت العدة من طلاق رجعي فمات أحد الزوجين قبل انقضاء العدة ورثه الآخر بلا خلاف سواء كان الطلاق في حال المرض أو في حال الصحة ; لأن الطلاق الرجعي منه لا يزيل النكاح فكانت الزوجية بعد الطلاق قبل انقضاء العدة قائمة من وجه والنكاح القائم من كل وجه سبب لاستحقاق الإرث من الجانبين كما لو مات أحدهما قبل الطلاق ، وسواء كان الطلاق بغير رضاها أو برضاها فإن ما رضيت به ليس بسبب لبطلان النكاح حتى يكون رضا ببطلان حقها في الميراث ، وسواء كانت المرأة حرة مسلمة وقت الطلاق أو مملوكة أو كتابية ثم أعتقت أو أسلمت في العدة ; لأن النكاح بعد الطلاق قائم من كل وجه ما دامت العدة قائمة وأنه سبب لاستحقاق الإرث . الإرث عند الموت
وإن كانت من طلاق بائن أو ثلاث فإن كان ذلك في حال الصحة فمات أحدهما لم يرثه صاحبه سواء كان الطلاق برضاها أو بغير رضاها ، وإن كان في حال المرض فإن كان برضاها لا ترث بالإجماع ، وإن كان بغير رضاها فإنها ترث من زوجها عندنا .
وعند لا ترث . الشافعي
ومعرفة هذه المسألة مبنية على معرفة سبب استحقاق الإرث وشرط الاستحقاق ووقته أما السبب فنقول : لا خلاف أن في حقها النكاح فإن الله عز وجل أدار الإرث فيما بين الزوجين على الزوجية بقوله سبحانه وتعالى { سبب استحقاق الإرث ولكم نصف ما ترك أزواجكم } إلى آخر ما ذكر سبحانه من ميراث الزوجين ولأن سبب الإرث في الشرع ثلاثة لا رابع لها : القرابة والولاء والزوجية ، واختلف في ، وعند الوقت الذي يصير النكاح سببا لاستحقاق الإرث هو وقت الموت فإن كان النكاح قائما وقت الموت ثبت الإرث وإلا فلا . الشافعي
واختلف مشايخنا ، قال بعضهم : هو وقت مرض الموت ، والنكاح كان قائما من كل وجه من أول مرض الموت ولا يحتاج إلى إبقائه من وجه إلى وقت الموت ليصير سببا .
وتفسير الاستحقاق عندهم هو ثبوت الملك من كل وجه للوارث من وقت المرض بطريق الظهور ، ومن وجه وقت الموت مقصورا عليه وهو طريق الاستناد ، وهما طريقتا مشايخنا المتقدمين .
وقال بعضهم وهو طريق المتأخرين منهم إن النكاح القائم وقت مرض الموت سبب لاستحقاق الإرث هو ثبوت حق الإرث من غير ثبوت الملك للوارث أصلا لا من كل وجه ولا من وجه .
( وجه ) قول أن الإرث لا يثبت إلا عند الموت ; لأن المال قبل الموت ملك المورث بدليل نفاذ تصرفاته فلا بد من وجود السبب عند الموت ، ولا سبب ههنا إلا النكاح وقد زال بالإبانة والثلاث فلا يثبت الإرث ، ولهذا لا يثبت بعد انقضاء العدة ولا يرث الزوج منها بلا خلاف ، ولو كان النكاح قائما في حق الإرث لورث ; لأن الزوجية لا تقوم بأحد الطرفين فدل أنها زائلة . الشافعي
ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم والمعقول : أما الإجماع فإنه روي عن أنه قال : كانوا يقولون ولا يختلفون من فر من كتاب الله تعالى رد إليه أي من طلق امرأته ثلاثا في مرضه فإنها ترثه ما دامت في العدة . ابن سيرين
وهذا منه حكاية عن إجماع الصحابة رضي الله عنهم ومثله لا يكذب .
وكذا روي توريث امرأة الفار عن جماعة من الصحابة من غير نكير ، مثل عمر وعثمان وعلي وعائشة رضي الله عنهم فإنه روي عن وأبي بن كعب إبراهيم النخعي أنه قال : جاء عروة البارقي إلى بخمس خصال من عند شريح رضي الله عنه منهن أن الرجل إذا طلق امرأته وهو مريض ثلاثا ورثت منه ما دامت في عدتها عمر
وروي عن الشعبي أنه قال : إن أم البنين بنت عيينة بن حصن كانت تحت عثمان رضي الله عنه فلما احتضر طلقها ، وقد كان أرسل إليها بشرى فلما قتل أتت رضي الله عنه فذكرت له ذلك فقال عليا رضي الله عنه تركها حتى إذا أشرف على [ ص: 219 ] الموت طلقها ، فورثها . علي
وروي أن طلق امرأته عبد الرحمن بن عوف تماضر الكلبية في مرضه آخر تطليقاتها الثلاث وكانت تحته أخت أم كلثوم بنت عقبة فورثها عثمان بن عفان رضي الله عنه وروي أنه قال ما أتهمه ولكن لا أريد أن تكون سنة . عثمان
وروى عن أبيه عن هشام بن عروة عائشة رضي الله عنها أنها قالت : إن المطلقة ثلاثا وهو مريض ترثه ما دامت في العدة وروي عن ترثه ما لم تتزوج فإن قيل إن أبي بن كعب مخالف فإنه روي عنه أنه قال في قصة ابن الزبير تماضر ورثها رضي الله عنه ولو كنت أنا لم أورثها فكيف ينعقد الإجماع مع مخالفته ؟ فالجواب أن الخلاف لا يثبت بقوله هذا ; لأنه محتمل يحتمل أن يكون معنى قوله : لو كنت أنا لما ورثتها أي عندي أنها لا ترث ويحتمل أن يكون معناه أي ظهر له من الاجتهاد والصواب ما لو كنت مكانه لكان لا يظهر لي فكان تصويبا له في اجتهاده وأن الحق في اجتهاده فلا يثبت الاختلاف مع الاحتمال بل حمله على الوجه الذي فيه تحقيق الموافقة أولى ، ويحتمل أنها كانت سألت الطلاق فرأى عثمان بن عفان رضي الله عنه توريثها مع سؤالها الطلاق فيرجع قوله : لو كنت أنا لما ورثتها إلى سؤالها الطلاق فلما ورثها عثمان رضي الله عنه مع مسألتها الطلاق فعند عدم السؤال أولى على أنه روي أن عثمان رضي الله عنه إنما قال ذلك في ولايته وقد كان انعقد الإجماع قبله منهم على التوريث فخلافه بعد وقوع الاتفاق منهم لا يقدح في الإجماع ; لأن انقراض العصر ليس بشرط لصحة الإجماع على ما عرف في أصول الفقه . ابن الزبير
وأما المعقول فهو أن سبب استحقاق الإرث وجد مع شرائط الاستحقاق فيستحق الإرث كما إذا طلقها طلاقا رجعيا ، ولا كلام في سبب الاستحقاق وشرائطه وإنما الكلام في فنقول : وقت الاستحقاق هو مرض الموت أما على التفسير الأول والثاني وهو ثبوت الملك من كل وجه أو من وجه فالدليل عليه النص وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ودلالة الإجماع والمعقول : أما النص فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { وقت الاستحقاق } أي تصدق باستيفاء ملككم عليكم في ثلث أموالكم زيادة على أعمالكم أخبر عن منة الله تعالى على عباده أنه استبقى لهم الملك في ثلث أموالهم ليكون وسيلة إلى الزيادة في أعمالهم بالصرف إلى وجوه الخير ; لأن مثل هذا الكلام يخرج مخرج الإخبار عن المنة ، وآخر أعمارهم مرض الموت فدل على زوال ملكهم عن الثلثين إذ لو لم يزل لم يكن ليمن عليهم بالتصدق بالثلث بل بالثلثين إذ الحكيم في موضع بيان المنة لا يترك أعلى المنتين ويذكر أدناهما ، وإذا زال ملكه عن الثلثين يئول إلى ورثته ; لأنهم أقرب الناس إليه فيرضى بالزوال إليهم لرجوع معنى الملك إليه بالدعاء والصدقة وأنواع الخير بخلاف الأحاديث . إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة على أعمالكم
وأما إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي عن رضي الله عنه أنه قال في مرض موته أبي بكر رضي الله عنها : إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا من مالي بالعالية وإنك لم تكوني حزتيه ولا قبضتيه وإنما هو اليوم مال الوارث ولم تدع لعائشة رضي الله عنها ولا أنكر عليه أحد وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم فيكون إجماعا منهم على أن عائشة يصير ملك الوارث من كل وجه أو من وجه . مال المريض في مرض موته
وأما دلالة الإجماع فهي أنه لا ينفذ تبرعه فيما زاد على الثلث في حق الأجانب ، وفي حق الورثة لا ينفذ بشيء أصلا ورأسا حتى كان للورثة أن يأخذوا الموهوب من يد الموهوب له من غير رضاه إذا لم يدفع القيمة ولو نفذ لما كان لهم الأخذ من غير رضاه فدل عدم النفاذ على زوال الملك وإذا زال يزول إلى الورثة لما بينا وأما المعقول فهو أن المال الفاضل عن حاجة الميت يصرف إلى الورثة بلا خلاف والكلام فيما إذا فضل ووقع من وقت المرض الفراغ عن حوائج الميت فهذه الدلائل تدل على ثبوت الملك من كل وجه للوارث في المال الفاضل عن حوائج الميت فيدل على ثبوت الملك من وجه لا محالة .
وأما على التفسير الثالث وهو ثبوت حق الملك رأسا فلدلالة الإجماع والمعقول : أما دلالة الإجماع فهو أن ينقض تبرعه بعد الموت ولولا تعلق حق الوارث بماله في مرض موته لكان التبرع تصرفا من أهل في محل مملوك له لا حق للغير فيه فينبغي أن لا ينقض فدل حق النقض على تعلق الحق .
وأما المعقول فهو أن النكاح [ ص: 220 ] حال مرض الموت صار وسيلة إلى الإرث عند الموت ، ووسيلة حق الإنسان حقه ; لأنه ينتفع به والطلاق البائن والثلاث إبطال لهذه الوسيلة فيكون إبطالا لحقها وذلك إضرار بها فيرد عليه ، ويلحق بالعدم في حق إبطال الإرث في الحال عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم { } فلم يعمل الطلاق في الحال في إبطال سببية النكاح لاستحقاق الإرث وكونه وسيلة إليه دفعا للضرر عنها وتأخر عمله فيه إلى ما بعد انقضاء العدة ، وكذلك إذا لا ضرر ولا ضرار في الإسلام بأن اختار نفسه ، وتقبيل ابنتها أو أمها وردته أن ذلك إن كان في الصحة لا ترث هي منه ولا هو منها بالإجماع كما لو أبانها بالطلاق لانعدام سبب الاستحقاق في وقت الاستحقاق وهو مرض الموت إلا في الردة بأن ارتد الزوج في حال صحته فمات على الردة أو قتل أو لحق بدار الحرب وهي في العدة فإنها ترث منه ; لأن الردة من الزوج في معنى مرض الموت لما نذكر إن شاء الله تعالى وإن كانت هذه الأسباب في حال المرض فهو على الاختلاف الذي ذكرنا في الطلاق أنها ترث منه عندنا خلافا أبانها بغير طلاق بخيار البلوغ ولا يرث هو منها بالإجماع . للشافعي
ولو لا ترث ، أما إذا كانت مطاوعة فلأنها رضيت بإبطال حقها وإن كانت مكرهة فلم يوجد من الزوج إبطال حقها المتعلق بالإرث لوقوع الفرقة بفعل غيره ، وإن كانت جامعها ابنه مكرهة أو مطاوعة كما إذا قبلت ابن زوجها أو أباه بشهوة طائعة أو مكرهة أو اختارت نفسها في خيار الإدراك أو العتاق أو عدم الكفاءة فإن كان ذلك في حال الصحة فإنهما لا يتوارثان بالإجماع كما إذا كانت البيونة من قبل الزوج ، وكذا البيونة من قبل المرأة . إذا ارتدت بخلاف ردة الزوج في حال صحته
ووجه الفرق أن ردة الزوج في معنى مرض موته ; لأنها تفضي إلى الموت إلا أن احتمال الصحة باحتمال الإسلام قائم فإذا قتل على الردة أو مات عليها فقد زال الاحتمال ، وكذا ; لأن الظاهر أنه لا يعود فتقرر المرض فتبين أن سبب الاستحقاق كان ثابتا في وقت الاستحقاق وهو مرض الموت وأن سبب الفرقة وجد في مرض الموت فترث منه كما لو كان مريضا حقيقة فأما ردتها فليست في معنى مرض موتها ليقال ينبغي أن يرث الزوج منها وإن كانت هي لا ترث منه ; لأنها لا تفضي إلى الموت ; لأنها لا تقتل عندنا فلم يكن النكاح القائم حال ردتها سببا لاستحقاق الإرث في حقه لانعدامه وقت الاستحقاق وهو مرض الموت لذلك افترقا ، والله عز وجل أعلم . إذا ألحق بدار الحرب
وإن كان في حال المرض فإن كان في حال مرض الزوج لا ترث منه وإن كانت في العدة لعدم شرط الإرث وهو عدم رضاها بسبب الفرقة ولحصول الفرقة بفعل غير الزوج ، ويرث الزوج منها إن لوجوب سبب الاستحقاق في حقه وهو النكاح في وقت الاستحقاق وهو مرض موتها ولوجود سبب إبطال حقه منها في حال المرض ، والقياس فيما إذا ارتدت في مرضها ثم ماتت في العدة أن لا يرثها زوجها وإنما يرثها استحسانا . كان سبب الفرقة منها في مرضها وماتت قبل انقضاء عدتها
وجه القياس أن الفرقة لم تقع بفعلها ; لأن فعلها الردة والفرقة لا تقع بها وإنما تقع باختلاف الدينين ولا صنيع لها في ذلك فلم يوجد منها في مرضها إبطال حق الزوج ليرد عليها فلا يرث منها .
وجه الاستحسان ما ذكرنا ولسنا نسلم أن الفرقة لم تقع بفعلها فإن الردة من أسباب الفرقة وقد حصلت منها في حال تعلق حقه بالإرث وهو مرض موتها فيرث منها والله عز وجل أعلم .