( فصل ) :
وأما من الكنايات رواجع بلا خلاف وهي قوله : اعتدي ، واستبري رحمك ، [ ص: 112 ] وأنت واحدة أما قوله : اعتدي فلما روي عن الكناية فثلاثة ألفاظ : أنه قال : القياس في قوله اعتدي أن يكون بائنا وإنما اتبعنا الأثر وكذا قال أبي حنيفة : القياس أن يكون بائنا وإنما تركنا القياس لحديث أبو يوسف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جابر : رضي الله عنها اعتدي فناشدته أن يراجعها لتجعل يومها لسودة بنت زمعة رضي الله عنها حتى تحشر في جملة أزواجه فراجعها ورد عليها يومها ، ولأن قوله اعتدي أمر بالاعتداد . لعائشة
والاعتداد يقتضي سابقة الطلاق والمقتضى يثبت بطريق الضرورة فيتقدر بقدر الضرورة ، والضرورة ترتفع بالأقل وهو الواحدة الرجعية فلا يثبت ما سواها ثم قوله : اعتدي إنما يجعل مقتضيا للطلاق في المدخول بها .
وأما في غير المدخول بها فإنه يجعل مستعارا من الطلاق ، وقوله : استبري رحمك تفسير قوله اعتدي ; لأن الاعتداد شرع للاستبراء فيفيد ما يفيده قوله : اعتدي وأما قوله : أنت واحدة فلأنه لما نوى الطلاق فقد جعل قوله : واحدة نعتا لمصدر محذوف وهو الطلقة كأنه قال : أنت طالق طلقة واحدة كما يقال : أعطيته جزيلا أي : عطاء جزيلا واختلف في البواقي من الكنايات فقال أصحابنا رحمهم الله : إنها بوائن .
وقال رواجع . الشافعي :
وجه قوله أن هذه الألفاظ كنايات الطلاق فكانت مجازا عن الطلاق ألا ترى أنها لا تعمل بدون نية الطلاق فكان العامل هو الحقيقة وهو المكنى عنه لا المجاز الذي هو الكناية ; ولهذا كانت الألفاظ الثلاثة رواجع فكذا البواقي ، ولنا أن الشرع ورد بهذه الألفاظ وأنها صالحة لإثبات البينونة ، والمحل قابل للبينونة فإذا وجدت من الأهل ثبتت البينونة استدلالا بما قبل الدخول ، ولا شك أن هذه الألفاظ صالحة لإثبات البينونة فإنه تثبت البينونة بها قبل الدخول وبعد انقضاء العدة ويثبت به قبول المحل أيضا ; لأن ثبوت البينونة في محل لا يحتملها محال ، والدليل على أن الشرع ورد بهذه الألفاظ قوله تعالى { : فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } وقوله تعالى { فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا } ، وقوله : { فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } .
والتسريح والمفارقة من كنايات الطلاق على ما بينا وروي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة فرأى في كشحها بياضا فقال لها : الحقي بأهلك ، وهذا من ألفاظ الكنايات وأن ركانة بن زيد أو زيد بن ركانة طلق امرأته ألبتة فحلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد بها الثلاث ، وقوله : ألبتة من الكنايات فإذا ثبت أن هذا التصرف مشروع فوجود التصرف - حقيقة - بوجود ركنه ووجوده - شرعا - بصدوره من أهله وحلوله في محله ، وقد وجد فتثبت البينونة وإذا ثبتت البينونة فقد زال الملك فلا يملك الرجعة ; ولأن شرع الطلاق في الأصل لمكان المصلحة ; لأن الزوجين قد تختلف أخلاقهما وعند اختلاف الأخلاق لا يبقى النكاح مصلحة ; لأنه لا يبقى وسيلة إلى المقاصد فتنقلب المصلحة إلى الطلاق ليصل كل واحد منهما إلى زوج يوافقه فيستوفي مصالح النكاح منه إلا أن المخالفة قد تكون من جهة الزوج وقد تكون من جهة المرأة ، فالشرع شرع الطلاق وفوض طريق دفع المخالفة والإعادة إلى الموافقة إلى الزوج لاختصاصه بكمال العقل والرأي فينظر في حال نفسه فإن كانت المخالفة من جهته يطلقها طلاقا واحدا رجعيا أو ثلاثا في ثلاثة أطهار ويجرب نفسه في هذه المدة فإن كان يمكنه الصبر عنها ولا يميل قلبه إليها يتركها حتى تنقضي عدتها ، وإن كان لا يمكنه الصبر عنها راجعها وإن كانت المخالفة من جهتها تقع الحاجة إلى أن تتوب وتعود إلى الموافقة وذلك لا يحصل بالطلاق الرجعي ; لأنها إذا علمت أن النكاح بينهما قائم لا تتوب فيحتاج إلى الإبانة التي بها يزول الحل والملك لتذوق مرارة الفراق فتعود إلى الموافقة عسى وإذا كانت المصلحة في الطلاق بهذين الطريقين مست الحاجة إلى شرع الإبانة عاجلا وآجلا تحقيقا لمصالح النكاح بالقدر الممكن ، وقوله هذه الألفاظ مجاز عن الطلاق ممنوع ، بل هي حقائق عاملة بأنفسها ; لأنها صالحة للعمل بأنفسها على ما بينا فكان وقوع البينونة بها لا بالمكنى عنه على أنا إن سلمنا أنها مجاز عن الطلاق فلفظ المجاز عامل بنفسه أيضا كلفظ الحقيقة ، فإن المجاز أحد نوعي الكلام فيعمل بنفسه كالحقيقة ولهذا قلنا : إن للمجاز عموما كالحقيقة إلا أنه يشترط النية لتنوع البينونة والحرمة إلى الغليظة والخفيفة فكان الشرط في الحقيقة نية التمييز وتعيين أحد النوعين لا نية الطلاق والله أعلم .
ويستوي فيما ذكرنا من الصريح والكناية والرجعي والبائن أن يكون ذلك بمباشرة الزوج بنفسه [ ص: 113 ] بطريق الأصالة أو بغيره بإذنه أو أمره .
وذلك نوعان : توكيل ، وتفويض أما التفويض فنحو قول الرجل لامرأته : أمرك بيدك وقوله اختاري ، وقوله أنت طالق إن شئت ، وما يجري مجراه وقوله : طلقي نفسك .