( فصل ) : وقول المسيح : إذا انطلقت أرسلته إليكم ، معناه أني أرسله بدعائي وطلبي منه أن يرسله ، كما يطلب الطالب من ولي الأمر أن يرسل رسولا ، أو يولي نائبا ، أو يعطي أحدا ، فيقول : أنا أرسلت هذا ووليته وأعطيته ، أي كنت سببا في ذلك ، فإن الله سبحانه وتعالى إذا قضى بأن يكون الشيء ، فإنه يقدر له أسبابا يكون بها ، ومن تلك الأسباب دعاء بعض عباده بأن يفعل ذلك ، فيكون في ذلك من النعمة إجابة دعائه ، مضافا إلى نعمته بإيجاد ما قضى كونه ، ومحمد صلى الله عليه وسلم قد دعا به الخليل عليه الصلاة والسلام [ ص: 344 ] أبوه ، فقال : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم .
مع أن الله سبحانه وتعالى قد قضى بإرساله وأعلن باسمه قبل ذلك ، كما قيل له : وآدم بين الروح والجسد ، وقال : يا رسول الله ، متى كنت نبيا ؟ قال : آدم لمنجدل في طينته . إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين وإن
وهذا كما قضى الله سبحانه وتعالى بنصره يوم بدر ، ومن أسباب ذلك استعانته بربه ودعاؤه وابتهاله بالنصر ، وكذلك ما يقتضيه من إنزال الغيث قد يجعله بسبب ابتهال عباده ودعائهم وتضرعهم إليه ، وكذلك ما يقضيه من مغفرة ورحمة وهداية ونصر ، قد يسبب له أدعية يحصل بها ممن ينال ذلك ، أو من غيره ، فلا يمتنع أن يكون المسيح سأل ربه بعد صعوده أن يرسل أخاه محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العالم ، ويكون ذلك من أسباب إرساله ، إضافة إلى دعوة أبيه إبراهيم ، لكن إبراهيم سأل ربه أن يرسله في الدنيا ، فلذلك ذكره الله سبحانه وتعالى ، وأما المسيح فإنما سأله بعد رفعه وصعوده إلى السماء كما وعد قبل رفعه .
( فصل ) : وتأمل قول المسيح " إني لست أدعكم أيتاما لأني سآتيكم عن قريب " كيف هو مطابق لقول أخيه محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليهما : ابن [ ص: 345 ] مريم حكما عدلا ، وإماما مقسطا ، فيقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويضع الجزية ، وأوصى أمته بأن يقرئه السلام من لقيه منهم . ينزل فيكم
وفي حديث آخر : كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسى في آخرها ؟ ! .