الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
( فصل ) : وكذلك ابنا الجلندي ، ملكا عمان وما حولها من ملوك النصارى ، أسلما طوعا واختيارا ، ونحن نذكر قصتهما وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما ، وهذا لفظه :

بسم الله الرحمن الرحيم .

من محمد بن عبد الله إلى جيفر وعبد ابني الجلندي .

سلام على من اتبع الهدى

أما بعد :

فإني أدعوكما بدعاية الإسلام ، أسلما تسلما ، فإني رسول الله إلى الناس كافة ، لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين ، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما ، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل ، وخيلي تحل بساحتكما ، [ ص: 284 ] وتظهر نبوتي على ملككما ، وختم الكتاب ، وبعث مع عمرو بن العاص .

قال عمرو : فخرجت حتى انتهيت إلى عمان ، فلما قدمتها انتهيت إلى عبد ، فكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقا ، قلت : إني رسول رسول الله إليك وإلى أخيك ، فقال : أخي المقدم علي بالسن والملك ، وأنا أوصلك إليه حتى يقرأ كتابك ، ثم قال لي : وما تدعو إليه ؟ قلت : أدعوك إلى الله وحده لا شريك له ، وتخلع ما عبد من دونه ، وتشهد أن محمدا عبده ورسوله ، قال : يا عمرو ، إنك سيد قومك ، فكيف صنع أبوك ؟ فإن لنا فيه قدوة ؟ قلت : مات ولم يؤمن بمحمد ، وودت أنه كان أسلم وصدق به ، وكنت أنا على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام .

قال : فمتى تبعته ؟ قلت : قريبا ، فسألني أين كان إسلامي ؟ فقلت : عند النجاشي ، وأخبرته أن النجاشي أسلم ، فقال : كيف صنع قومه بملكه ؟ قلت : أقروه . قال : والأساقفة والرهبان ؟ قلت : نعم . قال : انظر يا عمرو ما تقول ، إنه ليس خصلة في رجل أفضح له من كذب ، قلت : ما كذبت وما نستحله في ديننا ، ثم قال : ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي . قلت : قد علم . قال : بأي شيء علمت ؟ قلت : كان النجاشي يخرج له خرجا ، فلما أسلم وصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم قال : لا والله لو سألني درهما واحدا ما أعطيته ، فبلغ هرقل قوله ، فقال له أخوه بناق : أتدع عندك لا يخرج لك خرجا ويدين دينا محدثا ، قال هرقل : رجل رغب في دين واختاره لنفسه ، ما أصنع به ؟ والله لولا [ ص: 285 ] الضن بملكي لصنعت كما صنع ! قال : بما تقول يا عمرو ؟ قلت : والله لقد صدقتك . قال : فأخبرني ما الذي يأمر به وينهى عنه ؟ قلت : يأمر بطاعة الله عز وجل ، وينهى عن معصيته ، ويأمر بالبر وصلة الرحم ، وينهى عن الظلم والعدوان ، وعن الزنا وشرب الخمر ، وعن عبادة الحجر والوثن والصليب . فقال : ما أحسن هذا الذي يدعو إليه ، لو كان أخي يتابعني لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدق به ، ولكن أخي أضن بملكه من أن يدعه ويصير دينا . قلت : إنه إن أسلم ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه ، فأخذ الصدقة من غنيهم فردها على فقيرهم . قال : إن هذا لخلق حسن ، وما الصدقة ؟ فأخبرته بما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات في الأموال حتى انتهيت إلى الإبل . فقال : يا عمرو ، ويؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى الشجر وترد المياه ؟ فقلت : نعم ، فقال : والله ما أرى قومي في بعد دارهم ، وكثرة عددهم يطيعون بهذا . قال : فمكثت ببابه أياما وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبري ، ثم إنه دعاني يوما فدخلت عليه فأخذ أعوانه بضبعي ، فقال : دعوه ، فأرسلت ، فذهبت لأجلس فأبوا أن يدعوني أجلس ، فنظرت إليه ، فقال : تكلم بحاجتك ، فدفعت إليه الكتاب مختوما ، ففض خاتمه فقرأه حتى انتهى إلى آخره ثم دفعه إلى أخيه ، فقرأه مثل قراءته إلا أني رأيت أخاه أرق منه ، ثم قال : ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت ؟ فقلت : تبعوه إما راغب في الإسلام وإما مقهور بالسيف . فقال : ومن معه ؟ قلت : الناس قد رغبوا في الإسلام واختاروه على غيره ، وعرفوه بعقولهم مع هدى الله إياهم ، إنهم كانوا في ضلال ، فما أعلم أحدا بقي غيرك في هذه الحرجة ، وإن أنت لم تسلم اليوم وتتبعه توطئك الخيل وتبد خضراءك ، فأسلم تسلم ، ويستعملك على [ ص: 286 ] قومك ولا تدخل عليك الخيل والرجال ، قال : دعني يومي هذا ، وارجع إلي غدا ، فرجعت إلى أخيه ، فقال : يا عمرو ، إني لأرجو أن يسلم إن لم يضن بملكه ، حتى إذا كان الغد أتيت إليه فأبى أن يأذن لي ، فانصرفت إلى أخيه فأخبرته أني لم أصل إليه فأوصلني إليه ، فقال : إني فكرت فيما دعوتني إليه فإذا أنا ضعيف العرب إن ملكت رجلا ما في يدي وهو لا تبلغ خيله هاهنا ، وإن بلغت خيله ألفت رجالا وقتالا ليس كمن لاقى في القتال ، قلت : وأنا خارج غدا ، فلما أيقن بمخرجي ، خلا به أخوه ، فقال : ما نحن فيما قد ظهر عليه ، وكل من أرسل إليه قد أجابه .

فأصبح فأرسل إلي فأجاب بالإسلام هو وأخوه جميعا ، وصدقا النبي صلى الله عليه وسلم ، وخليا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم ، وكانا لي عونا على من خالفني
.

التالي السابق


الخدمات العلمية