فمن يشأ وفقه بفضله ومن يشأ أضله بعدله فمنهم الشقي والسعيد
وذا مقرب وذا طريد
قال الله عز وجل : ( من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ) ، ( الأنعام : 59 ) ، وقال تعالى : ( من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ) ، ( الأعراف : 178 ) وقال تعالى : ( من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون ) [ ص: 224 ] ( الأعراف : 186 ) ، وقال تعالى : ( ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ) ، ( الإسراء : 97 ) ، وقال تعالى : ( من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ) ( الكهف : 17 ) ، وقال تعالى : ( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) ، ( فاطر : 8 ) ، وقال تعالى : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ) ، ( الأنعام : 125 ) ، وقال تعالى : ( قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب ) ، ( الرعد : 27 ) ، وقال تعالى : ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ) ، ( القصص : 56 ) ، وقال تعالى : ( ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ) ، ( البقرة : 272 ) ، وقال تعالى : ( قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ) ، ( يونس : 35 ) ، وقال تعالى : ( قل إن هدى الله هو الهدى ) ، ( البقرة : 120 ) ، وقال تعالى : ( قل إن الهدى هدى الله ) ، ( آل عمران 73 ) ، وقال تعالى : ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ) ، ( الشمس : 7 ، 8 ) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته : . وقال صلى الله عليه وسلم : من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . اللهم آت نفسي تقواها ، زكها أنت خير من زكاها ، إنك أنت وليها ومولاها
( فمنهم ) أي من عباده ( الشقي ) وهو من أضله بعدله ، ( و ) منهم ( السعيد ) ، وهو من وفقه وهداه بفضله ، فالسعيد من سعد بقضاء الله ، والشقي من شقي بقضاء الله ، فلله الحمد على فضله وعدله ، ( وذا مقرب ) بتقريب الله إياه ، وهو السعيد ( وذا طريد ) بإبعاد الله إياه ، وهو الشقي البعيد ، فبيده - تعالى - الهداية والإضلال ، والإشقاء [ ص: 225 ] والإسعاد ، فهدايته العبد وإسعاده فضل ورحمة ، وإضلاله وإبعاده عدل منه وحكمة ، وهو أعلم بمواقع فضله وعدله ، وهو الحكيم العليم الذي يضع الأشياء مواضعها ، وهو أعلم بمن هو محل الهداية فيهديه ، ومن هو محل الإضلال فيضله ، وهو أحكم الحاكمين ، وهو عليم بالمتقين ، وعليم بالظالمين ، وعليم بالمهتدين ، وهو أعلم بالشاكرين ، وأعلم بما في صدور العالمين ، وهو أعلم حيث يجعل رسالته ، وهو أعلم بمن ضل عن سبيله ، وهو أعلم بمن اهتدى ، وله في ذلك الحكمة البالغة والحجة الدامغة ، ولذا نقول :
لحكمة بالغة قضاها يستوجب الحمد على اقتضاها
أي أن جميع أفعاله من هدايته من يشاء ، وإضلاله من يشاء ، وإسعاد من يشاء ، وإشقاء من يشاء ، وجعله أئمة الهدى يهدون إلى الحق بأمره ، وأئمة الضلالة يهدون إلى النار ، وإلهامه كل نفس فجورها وتقواها ، وجعله المؤمن مؤمنا ، والكافر كافرا عاصيا مع قدرته التامة الشاملة ، وأنه لو شاء لجعل الناس أمة واحدة ، ولو شاء لجمعهم على الهدى ، ولو شاء لآمن من في الأرض كلهم جميعا ، ولكن هذا الذي فعله بهم من قسمتهم إلى ضال ومهتد ، وشقي وسعيد ، ومقرب وطريد ، وطائع وعاص ، ومؤمن وكافر ، وغير ذلك هو مقتضى حكمته ، وموجب ربوبيته ، وحكمته حكمة حق ، وهي صفته القائمة به كسائر الصفات ، وهي متضمن اسمه " الحكيم " وهي الغاية المحبوبة له ، ولأجلها خلق فسوى ، وقدر فهدى ، وأسعد وأشقى ، ومنع وأعطى ، وخلق السماوات والأرض ، والآخرة والأولى ، فهو - سبحانه - الحكيم في خلقه وتكوينه ، الحكيم في قضائه وقدره ، الحكيم في أمره ونهيه وجميع شرعه ، فإن أسماءه وصفاته صفات كمال وجلال ، وأفعاله كلها عدل وحكمة ، والفعل لغير حكمة عبث ، والعبث من صفات النقص ، والله - تعالى - منزه بجميع أسمائه وصفاته وأفعاله عن جميع النقائص ، فجميع ما خلقه وقضاه وقدره خير وحكمة ، من جهة إضافته إليه - سبحانه وتعالى - وكذلك جميع ما شرعه وأمر به ، كله حكمة وعدل ، وما كان من شر في قضائه وقدره ، فمن جهة إضافته إلى فعل العبد ; لأنها معصية مذمومة ، مكروهة للرب غير محبوبة ، وأما من جهة إضافته إلى الرب - عز وجل - فخير محض ، ولحكمة بالغة ، وعدل تام ، وغاية محمودة ، لا شر فيها البتة ، ولهذا قال - تعالى - فيما قصه عن [ ص: 226 ] الجن : ( وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ) ، ( الجن : 10 ) ، فبنى الفعل في إرادة الشر للمفعول ; لأنه لا شر في حقه تعالى ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الافتتاح في صلاة الليل : . فنفى أن يضاف الشر إلى الله بوجه من الوجوه ، وإن كان هو خالقه ; لأنه ليس شرا من جهة إضافته إليه عز وجل ، وإنما كان شرا من جهة إضافته إلى العبد ، وذلك لأن الشر ليس إلا السيئات وعقوبتها ، وموجب السيئات شر النفس وجهلها ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : لبيك اللهم وسعديك ، والخير كله في يديك ، الشر ليس إليك . وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا الذي علمه أمته : سيد الاستغفار . وقال - تعالى - في حكايته استغفار الملائكة للمؤمنين : ( اللهم أنت ربي ، لا إله إلا أنت ، خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك علي ، وأبوء بذنبي ، فاغفر لي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم ) ، ( غافر : 9 ) ، ومن وقاه الله السيئات وأعاذه منها ، فقد وقاه عقوبتها من باب الاستلزام ، فإذا علم أن موجب السيئات هو الظلم والجهل ، وذلك من نفس العبد ، وهي أمور ذاتية لها ، وأن السيئات هي موجب العقوبة ، ، وإنما تكون شرا في حق العبد ، لما يلحقه من ألمها ، وذلك بما كسبت يداه جزاء وفاقا ، كما قال تعالى : ( والعقوبة من الله عدل محض وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) ، ( الشورى : 30 ) ، وقال تعالى : ( وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ) ، ( الزخرف : 76 ) ، وقال تعالى : ( إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ) ، ( يونس : 44 ) .
، وعدله وغناه التي هي من صفات ذاته ، فإذا أراد بعبده الخير ، أعطاه من فضله علما [ ص: 227 ] وعدلا وحكمة ، فيصدر منه الإحسان والطاعة ، والبر والخير ، وإذا أراد به شرا ، أمسكه عنه وخلاه ودواعي نفسه وطبعه وموجبها ، فصدر منه موجب الجهل والظلم من كل شر وقبيح ، وليس منعه لذلك ظلما منه - سبحانه - فإنه فضله يؤتيه من يشاء ، وليس من منع فضله ظالما ولا سيما إذا منعه عن محل لا يستحقه ولا يليق به ، وأيضا فإن هذا الفضل هو توفيقه وإرادته - تعالى - أن يلطف بعبده ، ويعينه ويوفقه ، ولا يخلي بينه وبين نفسه ، وهذا محض فعله وفضله ، وهو أعلم بمن يصلح لذلك ، ولهذا قال تعالى : ( فأفعال الله - عز وجل - كلها خير بصدورها عن علمه وحكمته وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ) ، ( الأنعام : 153 ) ، وقال تعالى : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين ) ، ( العنكبوت : 10 - 11 ) ، وقال تعالى : ( وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ، ( الأنعام : 124 ) ، وقال تعالى : ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) ( إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) ، ( الأنعام : 116 ، 118 ) ، وقال تعالى : ( إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين ) ، ( النحل : 37 ) ، وقال تعالى : ( فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ) ، ( النجم :29 ، 30 ) ، وقال تعالى : ( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) ، ( البقرة : 105 ) ، وقال تعالى : ( فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين ) ، ( التين : 7 - 8 ) ، بلى ونحن على ذلك من الشاهدين ، وقال تعالى : ( قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ) . . . إلى قوله : ( قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) ، ( آل عمران : 73 - 74 ) ، وقال تعالى : [ ص: 228 ] ( هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ) ، ( النجم : 32 ) ، وقال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) ، ( الحديد : 28 - 29 ) ، اللهم إنا نسألك من فضلك العظيم أن تهدينا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، آمين .
يا حي يا قيوم ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا بديع السماوات والأرض ، برحمتك نستغيث ، اللهم رحمتك نرجو ، فلا تكلنا إلى أنفسنا ، ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين ، وأصلح لنا شأننا كله ، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .