الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

      الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

      صفحة جزء
      [ ص: 144 ] ( العلي ) فكل معاني العلو ثابتة له ، ( علو قهر ) فلا مغالب له ولا منازع ، بل كل شيء تحت سلطان قهره ، ( قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار ) ، ( ص : 65 ) . ( لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار ) ، ( الزمر : 4 ) ، وقد جمع الله - تعالى - بين علو الذات والقهر في قوله تعالى : ( وهو القاهر فوق عباده ) ، ( الأنعام : 18 ) ، أي وهو الذي قهر كل شيء ، وخضع لجلاله كل شيء ، وذل لعظمته وكبريائه كل شيء ، وعلا بذاته على عرشه فوق كل شيء .

      ( وعلو الشأن ) فتعالى عن جميع النقائص والعيوب المنافية لإلهيته وربوبيته وأسمائه الحسنى وصفاته العلى ، تعالى في أحديته عن الشريك والظهير والولي والنصير ، وتعالى في عظمته وكبريائه وجبروته عن الشفيع عنده بدون إذنه والمجير ، وتعالى في صمديته عن الصاحبة والولد والوالد والكفؤ والنظير ، وتعالى في كمال حياته وقيوميته وقدرته عن الموت والسنة والنوم والتعب والإعياء ، وتعالى في كمال علمه عن الغفلة والنسيان ، وعن عزوب مثقال ذرة عن علمه في الأرض أو في السماء ، وتعالى في كمال حكمته وحمده عن الخلق عبثا ، وعن ترك الخلق سدى بلا أمر ولا نهي ولا بعث ولا جزاء ، وتعالى في كمال عدله على أن يظلم أحدا مثقال ذرة ، أو أن يهضمه شيئا من حسناته ، وتعالى في كمال غناه عن أن يطعم أو يرزق ، أو أن يفتقر إلى غيره في شيء ، وتعالى في صفات كماله ونعوت جلاله عن التعطيل والتمثيل ، قال الله تعالى : ( وما من إله إلا الله ) ، وقال تعالى : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) ، ( محمد : 19 ) ، وقال تعالى : ( قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ) ، ( الأحقاف : 4 ) ، وقال : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما ) ، ( الأنبياء : 22 ) ، وقال تعالى : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ) ، ( سبأ : 22 ) ، وقال تعالى : ( ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل ) ، ( الإسراء : 111 ) ، وقال تعالى : ( قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ) [ ص: 145 ] ( سورة الإخلاص ) ، وقال تعالى : ( وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ) ، ( الجن : 3 ) ، وقال تعالى : ( رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا ) ، ( مريم : 65 ) ، وقال تعالى : ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) ، ( الأنبياء : 28 ) ، وقال تعالى : ( ما من شفيع إلا من بعد إذنه ) ، ( يونس : 3 ) وقال تعالى : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) ، ( البقرة : 254 ) ، وقال تعالى : ( شيء وهو يجير ولا يجار عليه ) ، ( المؤمنون : 88 ) ، وقال تعالى : ( وتوكل على الحي الذي لا يموت ) ، ( الفرقان : 58 ) ، وقال تعالى : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ) ، ( البقرة : 254 ) ، وقال تعالى : ( ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ) ، ( ق : 38 ) ، وقال تعالى : ( أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ) ، ( ق : 15 ) ، وقال تعالى : ( أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير ) ، ( الأحقاف : 33 ) ، وقال تعالى : ( وما الله بغافل عما تعملون ) ، وقال تعالى : ( وما كنا عن الخلق غافلين ) ، ( المؤمنون : 17 ) ، وقال تعالى : ( وما كان ربك نسيا ) ، وقال - تعالى - عن موسى لما قال له فرعون : ( فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ) ، ( طه : 51 - 52 ) ، وقال تعالى : ( عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ) ، ( سبأ : 3 ) ، وقال تعالى : ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا ) ، ( ص : 27 ) ، وقال تعالى : ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون ) ، ( الدخان : 38 - 39 ) ، وقال تعالى : ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ) ، ( المؤمنون : 115 ) ، وقال تعالى : ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ) ، ( القيامة : 36 ) ، وقال تعالى : ( ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ) ، ( الكهف : 49 ) ، وقال تعالى : ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ) ، ( النساء : 40 ) ، وقال تعالى : ( وما ربك بظلام للعبيد ) ، وقال تعالى : [ ص: 146 ] ( ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما ) ، ( طه : 112 ) ، وقال تعالى : ( قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم ) ، ( الأنعام : 14 ) ، وقال تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) ، ( الذاريات : 56 - 58 ) ، وقال تعالى : ( ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ) ، ( فاطر : 15 ) ، وقال تعالى : ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ) ، ( طه : 11 ) ، وقال تعالى : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) ، ( الشورى : 110 ) .

      والآيات في هذا الباب كثيرة جدا ، وهذان المعنيان من العلو لم يخالف فيهما أحد ممن يدعي الإسلام وينتسب إليه ، وإنما ضل من ضل منهم ، وأخطأ في التنزيه الذي هو مقصوده ، حيث لم يسلك الطريق الموصلة إليه ، وأحسن الظن بنفسه وعقله ومتبوعه ، وأساءه بالكتاب والسنة ، وكثير منهم اغتر بقول كان مقصود قائله الزيغ والفساد والكفران ، فحسب - لإحسان الظن به - أن مقصوده التحقيق والإيمان والعرفان ، واتبعوا السبل المضلة ، فتفرقت بهم عن صراط الرحمن ، فمنهم من نزهه - تعالى - عن فوقيته على عرشه بائنا من خلقه ، ووقع في أعظم من ذلك حيث اعتقد أنه في كل مكان ، ولم ينزهه حتى عن الأماكن الخسيسة ، ومنهم من نزهه عن العلو والفوقية ، وجعله هو الوجود بأسره ، ومنهم من نزهه عن وجود ذاته ، ووصفه بالعدم المحض ، ومنهم من نزهه عن أفعاله ومشيئته فرارا من وصفه بالظلم ، ووقع في تعطيله عن قدرته ونسبته إلى العجز ، وغلا بعضهم في ذلك حتى أنكر علمه السابق ، ووصفه بضده ، ومنهم من غلا في مسألة القدر وإثباته ، وخاصم به الأمر والنهي فرارا مما وقع فيه الأولون ، ووقع في أعظم ذلك تعطيل الشريعة ، ونسبته - تعالى - إلى الظلم وإلى تكليف عباده ما لا يطاق ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، ففروا من الهدى إلى الضلالة ، ومن الرشد إلى الغي ، ومن الإسلام إلى الكفر ، ومن السنة إلى البدعة ، ومن النور إلى الظلمات ، وضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وهدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق بإذنه ، فجعلوا [ ص: 147 ] إمامهم وقدوتهم الكتاب والسنة ، وساروا معهما حيث سارا ، ووقفوا حيث وقفا ، فأثبتوا لله ما أثبته لنفسه ، وأثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الأسماء الحسنى والصفات العلا ، وآمنوا بالقدر خيره وشره ، وتلقوه بالرضا والتسليم ، وانقادوا للشريعة فقابلوا أوامرها ونواهيها بالامتثال والتعظيم ، فما أثبت الله لنفسه أثبتوه ، وما نفاه عن نفسه نفوه ، فإذا سمعوا آيات الصفات وأحاديثها ، قالوا : آمنا به كل من عند ربنا ، وإن أحسنوا ، قالوا : الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وإن أساءوا ، قالوا : ربنا ظلمنا أنفسنا ، وإن لم تغفر لنا وترحمنا ، لنكونن من الخاسرين ، وإذا أصابتهم مصيبة ، قالوا : إنا لله وإنا إليه راجعون .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية