الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

      الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

      صفحة جزء
      ذكر ما نقل عن الأئمة وعن غيرهم في هذا الباب

      عن الإمام مالك - رحمه الله تعالى - أن الرشيد سأله عن ذلك ، فاستدل له باختلاف اللغات والأصوات والنغمات . وعن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - أن بعض الزنادقة [ ص: 111 ] سألوه عن وجود الباري - تعالى - فقال لهم : دعوني ، فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ، ذكروا إلي أن سفينة في البحر موقرة ، فيها أنواع من المتاجر ، وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها ، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها ، وتخترق الأمواج العظام ، حتى تخلص منها ، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد . فقالوا : هذا شيء لا يقوله عاقل . فقال : ويحكم ، هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي ، وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ، ليس لها صانع ؟ فبهت القوم ورجعوا إلى الحق ، وأسلموا على يديه .

      وعن الشافعي - رحمه الله تعالى - أنه سئل عن وجود الخالق - عز وجل - فقال : هذا ورق التوت ، طعمه واحد ، تأكله الدود ، فيخرج منه الإبريسم ، وتأكله النحل ، فيخرج منه العسل ، وتأكله الشاء والبقر والأنعام ، فتلقيه بعرا وروثا ، وتأكله الظباء ، فيخرج منه المسك ، وهو شيء واحد .

      وعن الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - أنه سئل عن ذلك ، فقال : هاهنا حصن حصين أملس ، ليس له باب ولا منفذ ، ظاهره كالفضة البيضاء ، وباطنه كالذهب الإبريز ، فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره ، فخرج منه حيوان سميع بصير ، ذو شكل حسن وصوت مليح ا هـ . يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الديك . وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد :


      تأمل في رياض الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك     عيون من لجين شاخصات
      بأحداث هي الذهب السبيك     على قضب الزبرجد شاهدات
      بأن الله ليس له شريك

      .

      وقال ابن المعتز ، ويروي لأبي العتاهية - رحمهما الله تعالى :


      فيا عجبا كيف يعصى الإله     أم كيف يجحده الجاحد
      ولله في كل تحريكة     وفي كل تسكينة شاهد
      وفي كل شيء له آية     تدل على أنه واحد

      .

      وسئل بعض الأعراب عن هذا ، وما الدليل على وجود الرب - تعالى - فقال : يا سبحان الله ، إن البعر ليدل على البعير ، وإن أثر الأقدام ليدل على المسير ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ، ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير ؟ .

      ومن خطب قس بن ساعدة الإيادي ، وكان على ملة إبراهيم رحمه الله تعالى : أيها [ ص: 112 ] الناس ، اجتمعوا فاسمعوا ، وإذا سمعتم فعوا ، وإذا وعيتم فانتفعوا ، وقولوا وإذا قلتم فاصدقوا ، من عاش مات ، ومن مات فات ، وكل ما هو آت آت ، مطر ونبات ، وأحياء وأموات ، ليل داج ، وسماء ذات أبراج ، ونجوم تزهر ، وبحار تزخر ، وضوء وظلام ، وليل وأيام ، وبر وآثام ، إن في السماء خبرا ، وإن في الأرض عبرا ، يحار فيهن البصر ، مهاد موضوع ، وسقف مرفوع ، ونجوم تغور ، وبحار لا تفور ، ومنايا دوان ، ودهر خوان ، كحد النسطاس ووزن القسطاس . أقسم قس قسما ، لا كاذبا فيه ولا آثما ، لئن كان في هذا الأمر رضى ، ليكونن سخط ، ثم قال : أيها الناس ، إن لله دينا هو أحب إليه من دينكم هذا الذي أنتم عليه ، وهذا زمانه وأوانه . ثم قال : مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون ، أرضوا بالمقام فأقاموا ، أم تركوا فناموا . وفي بعض ألفاظها قال : شرق وغرب ، ويتم وحزب ، وسلم وحرب ، ويابس ورطب ، وأجاج وعذب ، وشموس وأقمار ، ورياح وأمطار ، وليل ونهار ، وإناث وذكور ، وبرار وبحور ، وحب ونبات ، وآباء وأمهات ، وجمع وأشتات ، وآيات في إثرها آيات ، ونور وظلام ، وشر وإعدام ، ورب وأصنام ، لقد ضل الأنام ، نشو مولود ، ووأد مفقود ، وتربية محصود ، وفقير وغني ، ومحسن ومسئ ، تبا لأرباب الغفلة ، ليصلحن العامل عمله ، وليفقدن الآمل أمله ، كلا بل هو إله واحد ليس بمولود ولا والد ، أعاد وأبدى ، وأمات وأحيا ، وخلق الذكر والأنثى ، رب الآخرة والأولى . أما بعد فيا معشر إياد ، أين ثمود وعاد ، وأين الآباء والأجداد ، وأين العليل والعواد ، كل له معاد . يقسم قس برب العباد ، وساطح المهاد لتحشرن على الانفراد ، في يوم التناد ، وإذا نفخ في الصور ، ونقر في الناقور ، ووعظ الواعظ ، فانتبذ القانط وأبصر اللاحظ . فويل لمن صدف عن الحق الأشهر ، والنور الأزهر ، والعرض الأكبر في يوم الفصل ، وميزان العدل ، إذا حكم القدير ، وشهد النذير ، وبعد النصير ، وظهر التقصير ، فريق في الجنة وفريق في السعير .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية