وقال الذين ارتدوا : نصلي الصلاة ولا نزكي ، والله لا تغصب أموالنا ، فكلم أبو بكر في ذلك ليتجاوز عنهم ، وقيل له : إنهم لو قد فقهوا أدوا الزكاة . فقال : والله لا أفرق بين شيء جمعه الله - عز وجل ، ولو منعوني عقالا مما فرض الله ورسوله لقاتلتهم عليه ، فبعث الله عصائب مع أبي بكر فقاتلوا حتى أقروا بالماعون وهو الزكاة . قال قتادة : فكنا نتحدث أن هذه [ ص: 1148 ] الآية نزلت في أبي بكر وأصحابه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ( المائدة 54 ) إلى آخر الآية .
ولا ينافي هذا ما ورد من أنها نزلت في أهل اليمن كما أخرج ، عن ابن جرير شريح بن عبيد قال : لما أنزل الله يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه ( المائدة 54 ) الآية ، قال عمر - رضي الله عنه : أنا وقومي يا رسول الله ؟ قال : لا ، بل هذا وقومه - يعني : أبا موسى الأشعري .
وأخرج ابن سعد ، في مسنده ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والحكيم الترمذي ، وابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم ، والطبراني وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الدلائل ، عن قال : عياض الأشعري لما نزلت فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ( المائدة 54 ) قال رسول الله : هم قوم هذا ، وأشار إلى - رضي الله عنه أبي موسى الأشعري .
وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، والحاكم في جمعه لحديث شعبة ، والبيهقي ، ، وابن عساكر عن - رضي الله عنه - قال : تليت على النبي - صلى الله عليه وسلم - أبي موسى الأشعري فسوف يأتي الله بقوم ( المائدة 54 ) الآية ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : قومك يا ، أبا موسى الأشعري أهل اليمن .
[ ص: 1149 ] وأخرج في الكنى ابن أبي حاتم في الأوسط ، والطبراني وأبو الشيخ ، وابن مردويه بسند حسن ، عن قال : جابر بن عبد الله سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله : فسوف يأتي الله بقوم ( المائدة 54 ) الآية ، فقال : هؤلاء قوم من أهل اليمن ، ثم كندة ، ثم السكون ، ثم تجيب .
وأخرج في تاريخه ، البخاري ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن في الآية قال : هم قوم من ابن عباس أهل اليمن ، ثم من كندة ، ثم من السكون . وأخرج عنه قال : هم ابن أبي شيبة أهل القادسية .
قلت : وكان غالب أهل القادسية من أهل اليمن ، بل كانت بجيلة ربع الناس فضلا عن غيرهم ، وكان بأس الناس الذي هم فيه ، كما رواه ، عن ابن إسحاق ، عن إسماعيل بن أبي خالد قال : وكان يمر قيس بن أبي حازم عمرو بن معد يكرب الزبيدي ، فيقول : يا معشر المهاجرين كونوا أسودا ، فإنما الفارسي تيس . وقد قتل - رضي الله عنه - أسوارا فارس الفرس ، وأبلى بلاء حسنا ، وكانت له اليد البيضاء يومئذ .
وأخرج - رحمه الله تعالى - في تأريخه ، عن البخاري القاسم بن ينخسرة قال : أتيت ابن عمير فرحب بي ، ثم تلا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ( المائدة 54 ) الآية ، ثم ضرب على منكبي وقال : أحلف بالله أنه لمنكم أهل اليمن . ثلاثا .
[ ص: 1150 ] وكل هذا لا ينافي ما قدمناه من نزولها في أبي بكر أولا ، فإن أهل اليمن لم يرتد جميع قبائلهم يومئذ ، وإنما ارتد كثير منهم مع الأسود ، وثبت كثير منهم على الإيمان مع ، معاذ بن جبل وأبي موسى ، وفيروز الديلمي ، وغيرهم من عمال النبي - صلى الله عليه وسلم ، ونشب بين مؤمنهم وكافرهم قتال عظيم ، حتى قتل الله الأسود على يد فيروز ، وأيد الله الذين آمنوا منهم على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ، ولكن لم يرجع أمرهم على ما كانوا عليه قبل العنسي إلا في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه ، فإنه لم يزل يتابع الكتائب مددا لمؤمنهم على كافرهم حتى راجعوا الإسلام ، وكانوا من أعظم أنصاره حتى صار رؤساء ردتهم كعمرو بن معد يكرب وغيرهم من أعظم الناس وأشدهم بلاء في أيام الردة والفتوح ، فحينئذ عاد المعنى إلى وقيس بن مكشوح أبي بكر وأصحابه ، وهم من أصحابه ، وكل هذا في شأن السبب لنزول الآية ، وإلا فهي عامة لكل مؤمن يحب الله ويحبه ، ويوالي فيه ويعادي فيه ، ولا يخاف في الله لومة لائم .
وكان أبو بكر وأصحابه أسعد الناس بذلك ، وأقدمهم فيه ، وأسبقهم إليه ، وأول من تناولته الآية - رضي الله عنه - وأرضاه ، وعن أنصار الإسلام وحزبه أجمعين .
وفي الصحيحين ، وغيرهما ، عن - رضي الله عنه - قال : لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، واستخلف أبي هريرة أبو بكر بعده ، وكفر من كفر من العرب ، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر - رضي الله عنه : كيف تقاتل الناس ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله ، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه ، وحسابه على الله - عز وجل . فقال أبو بكر : والله ، لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعه ، فقال : فوالله ما هو إلا أن رأيت الله - عز وجل - قد شرح صدر عمر بن الخطاب أبي بكر للقتال ، فعرفت أنه الحق .
وتفاصيل مواقفه العظام - رضي الله عنه - مشهورة مبسوطة في كتب السيرة [ ص: 1151 ] وغيرها ، وكانت مدة خلافته سنتين وثلاثة أشهر ، وكانت وفاته - رضي الله عنه - في يوم الاثنين عشية ، وقيل بعد المغرب ، ودفن من ليلته وذلك لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة بعد مرض خمسة عشر يوما ، وكان - رضي الله عنه - يصلي بالمسلمين ، وفي أثناء هذا المرض عهد بالأمر من بعده إلى عمر بن الخطاب ، وكان الذي كتب العهد عمر بن الخطاب ، وقرئ على المسلمين فأقروا به ، وسمعوا له وأطاعوا ، وكان عثمان بن عفان ثلاثا وستين سنة ، السن الذي توفي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وقد جمع الله بينهما في التربة كما جمع بينهما في الحياة ، فرضي الله عنه وأرضاه ، ومن جميع أبواب الجنة دعاه ، وقد فعل ولله الحمد والمنة . عمر الصديق - رضي الله عنه - يوم توفي
. خلافة الفاروق رضي الله عنه
ثانيه في الفضل بلا ارتياب الصادع الناطق بالصواب أعني به الشهم أبا حفص عمر
من ظاهر الدين القويم ونصر الصارم المنكي على الكفار
وموسع الفتوح في الأمصار
( ثانيه ) أي ثاني أبي بكر ( في الفضل ) على الناس بعده فلا أفضل منه ، وكذا هو ثانيه في الخلافة بالإجماع ( بلا ارتياب ) أي بلا شك ( الصادع ) بالحق المجاهر به الذي لا يخاف في الله لومة لائم ، ومنه قول الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم فاصدع بما تؤمر ( الحجر 94 ) فكان عمر - رضي الله عنه - كذلك ، وبه سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - فاروقا ( الناطق بالصواب ) والذي وافق الوحي في أشياء قبل نزوله ، كما سيأتي ( أعني به ) أي بهذا النعت ( الشهم ) الذكي المتوقد السيد المطاع الحكم القوي في أمر الله الشديد في دين الله ( ثاني الخلفاء ، وإمام الحنفاء بعد أبا حفص عمر ) بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب العدوي أبي بكر - رضي الله عنهما ، وأول من تسمى أمير المؤمنين ، ( الصارم ) السيف المسلول ( المنكي ) من النكاية ( على الكفار ) لشدته عليهم ، وإثخانه إياهم حتى إن كان شيطانه ليخافه أن يأمره بمعصية ، كما قاله - رضي الله عنه - ( وموسع ) من الاتساع ( الفتوح ) فتوح الإسلام [ ص: 1152 ] ( في الأمصار ) فكمل فتوح علي بن أبي طالب بلاد الروم بعد اليرموك ، ثم بلاد فارس حتى مزق الله به ملكهم كل ممزق ، ثم أوغل في بلاد الترك كما هو مبسوط في كتب السير وغيرها .
تقدمت إشارات النصوص النبوية إلى خلافته قريبا مع ذكر أبي بكر - رضي الله عنه ، وكثير من فضائله أيضا التي شارك فيها أبا بكر ، وفي الصحيحين عن جابر - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم : ، وسمعت خشخشة فقلت : من هذا ؟ فقال : هذا بالرميصاء امرأة أبي طلحة بلال ، ورأيت قصرا بفنائه جارية ، فقلت : لمن هذا ؟ فقال : لعمر ، فأردت أن أدخله فأنظر إليه ، فذكرت غيرتك ، فقال عمر : بأبي وأمي يا رسول الله ، أعليك أغار ؟ رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا
وعن - رضي الله عنه - قال : بينا نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال : أبي هريرة لعمر ، فذكرت غيرته فوليت مدبرا ، فبكى عمر ، وقال : أعليك أغار يا رسول الله ؟ بينا أنا نائم رأيتني في الجنة ، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر ، فقلت : لمن هذا القصر ؟ فقالوا :
وعن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، عن أبيه ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : عمر بن الخطاب . قالوا : فما أولت ذلك يا رسول الله ؟ قال : العلم . بينا أنا نائم ، إذ رأيت قدحا أوتيت به فيه لبن ، فشربت منه حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري ، ثم أعطيت فضلي
[ ص: 1153 ] وعن - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : أبي سعيد الخدري ، وعليه قميص يجتره ، قالوا : فما أولته يا رسول الله ؟ قال : الدين عمر بن الخطاب . بينا أنا نائم ، رأيت الناس عرضوا علي ، وعليهم قمص ، فمنها ما يبلغ الثدي ، ومنها ما يبلغ دون ذلك ، وعرض علي
وعن ، عن أبيه قال : محمد بن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده نسوة من عمر بن الخطاب قريش يكلمنه ، ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته - صلى الله عليه وسلم ، فلما استأذن قمن فبادرن الحجاب ، فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، فدخل عمر بن الخطاب عمر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك ، فقال عمر : أضحك الله سنك يا رسول الله . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي ، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب . فقال عمر : فأنت أحق أن يهبن يا رسول الله . فقال عمر : يا عدوات أنفسهن ، أتهبنني ولا تهبن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ؟ فقلن : نعم ، أنت أفظ وأغلظ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إيها يا ابن الخطاب ، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك . استأذن
وعن - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء ، فإن يكن من أمتي منهم أحد فعمر . لقد كان فيمن كان قبلكم من
[ ص: 1154 ] وعن - رضي الله عنهما - ابن عمر عبد الله بن أبي ، جاء ابنه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاه قميصه ، وأمره أن يكفنه فيه ، ثم قام يصلي عليه ، فأخذ عبد الله بن عبد الله بثوبه ، فقال : تصلي عليه وهو منافق ، وقد نهاك الله أن تستغفر لهم ؟ قال : إنما خيرني الله أو أخبرني الله ، فقال : عمر بن الخطاب استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ( التوبة 80 ) فقال : سأزيده على سبعين . قال : فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وصلينا معه ، ثم أنزل الله عليه ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ( التوبة 84 ) . متفق على جميعها . أنه قال : لما توفي
وفي ، عن البخاري - رضي الله عنهما ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال : عمر بن الخطاب عبد الله بن أبي بن سلول ، دعي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه ، فلما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وثبت إليه فقلت : يا رسول الله أتصلي على ابن أبي ، وقد قال يوم كذا كذا وكذا ، قال : اعدد عليه قوله . فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : أخر عني يا عمر ، فلما أكثرت عليه قال : إني خيرت فاخترت ، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها . قال : فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم انصرف ، فلم يلبث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من " براءة " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا . . . إلى قوله : وهم فاسقون ( التوبة 84 ) قال : فعجبت من جرأتي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، والله ورسوله أعلم . لما مات
وفي صحيح مسلم من حديث - رضي الله عنه - في قصة أسارى بدر بطوله ، قال ابن عباس : ابن عباس لأبي بكر وعمر : ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ فقال أبو بكر : هم يا نبي الله بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية ، فتكون لنا قوة على الكفار ، فعسى الله أن يهديهم للإسلام ، [ ص: 1155 ] فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ما ترى يا ابن الخطاب ؟ قلت : لا والله يا رسول الله ، ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكني أرى أن تضرب أعناقهم ، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكنني من فلان - نسيبا لعمر - فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها ، فهوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت ، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان ، قلت : يا رسول الله ، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ، فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أبكي للذي عرض علي في أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة - شجرة قريبة من نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله - عز وجل ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض - إلى قوله - فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا ( الأنفال 67 - 69 ) فأحل الله الغنيمة لهم . فلما أسروا الأسارى ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وفي صحيح ، عن البخاري أنس - رضي الله عنه - قال : قال عمر - رضي الله عنه : وافقت الله في ثلاث أو وافقني الله في ثلاث ، قلت : يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فأنزل الله تعالى : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ( البقرة 125 ) وقلت : يا رسول الله ، يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ، فأنزل الله آية الحجاب ، قال : وبلغني معاتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض نسائه ، فدخلت عليهن قلت : إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - خيرا منكن ، حتى أتيت إحدى نسائه ، قالت : يا عمر ، ما في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت ؟ فأنزل الله تعالى : عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات ( التحريم 5 ) .
[ ص: 1156 ] وعنه - رضي الله عنه - أنس : فما فرحنا بشيء كما فرحنا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم : أنت مع من أحببت . قال أنس : فأنا أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر ، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم ، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم . أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة ، فقال : متى الساعة ؟ قال : وماذا أعددت لها ؟ قال : لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم . فقال : أنت مع من أحببت . قال
وعن - رضي الله عنه - قال : ما رأيت أحدا قط بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حين قبض كان أجد وأجود ، حتى انتهى من ابن عمر ، رضي الله عنه . عمر بن الخطاب
وعن قال : لما طعن المسور بن مخرمة عمر - رضي الله عنه - جعل يألم ، فقال - رضي الله عنهما - وكأنه يجزعه : يا أمير المؤمنين ، ولئن كان ذلك لقد صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحسنت صحبته ، ثم فارقته وهو عنك راض ، ثم صحبت ابن عباس أبا بكر فأحسنت صحبته ، ثم فارقته وهو عنك راض ، ثم صحبت صحبتهم ، ولئن فارقتهم ، لتفارقنهم وهم عنك راضون . قال : أما ما ذكرت من صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضاه ، فإنما ذاك من الله تعالى من به تعالى علي ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه ، فإنما ذلك من الله - عز وجل - ذكره ، من به علي ، وأما ما ترى من جزعي ، فهو من أجلك وأجل أصحابك ، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبا ، لافتديت به من عذاب الله - عز وجل - قبل أن أراه .
وفيهما عن - رضي الله عنهما - قال : وضع ابن عباس عمر على سريره ، فتكنفه الناس يدعون ويصلون قبل أن يرفع وأنا فيهم ، فلم يرعني إلا رجل آخذ منكبي ، فإذا علي - رضي الله عنه - فترحم على عمر ، وقال : ما خلفت أحدا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك ، وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله تعالى مع [ ص: 1157 ] صاحبيك ، وحسبك أني كنت أسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول كثيرا : ذهبت أنا وأبو بكر وعمر ، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر . زاد مسلم في آخره أيضا : فإن كنت لأرجو أو لأظن أن يجعلك الله تعالى معهما . والأحاديث في فضله كثيرة جدا قد أفردت بالتصنيف ، وفيما ذكرناه كفاية .
قصة . استشهاد الفاروق ، رضي الله عنه
وكان قصة استشهاده ما ذكره - رحمه الله تعالى - قال : حدثنا البخاري ، حدثنا موسى بن إسماعيل أبو عوانة ، عن حصين ، عن عمرو بن ميمون قال : رأيت - رضي الله عنه - قبل أن يصاب بأيام عمر بن الخطاب بالمدينة ، وقف على حذيفة بن اليمان ، وقال : كيف فعلتما ؟ أتخافان أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق ؟ قالا : لا حملناها أمرا هي له مطيقة ، ما فيها كبير فضل ، قال : انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق . قالا : لا . فقال وعثمان بن حنيف عمر : لئن سلمني الله تعالى لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدا . قال : فما أتت عليه رابعة حتى أصيب ، رضي الله عنه .
قال : إني لقائم ما بيني وبينه إلا غداة أصيب ، وكان إذا مر بين الصفين قال : استووا ، حتى إذا لم ير فيهن خللا تقدم فكبر ، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس ، فما هو إلا أن كبر حتى سمعته يقول : قتلني ، أو أكلني الكلب حين طعنه ، فطار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يمينا ولا شمالا إلا طعنه ، حتى طعن ثلاثة عشر رجلا ، مات منهم سبعة ، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين ، طرح عليه برنسا ، فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه ، وتناول عبد الله بن عباس عمر يد فقدمه ، فمن يلي عبد الرحمن بن عوف عمر فقد رأى الذي أرى ، وأما نواحي المسجد فلا يدرون غير أنهم فقدوا صوت عمر - رضي الله عنه ، وهم يقولون : سبحان الله سبحان الله ، فصلى بهم صلاة خفيفة ، فلما [ ص: 1158 ] انصرفوا قال : يا عبد الرحمن بن عوف ، انظر من قتلني . فجال ساعة ، ثم جاء فقال : غلام المغيرة . فقال : الصنع ؟ قال : قاتله الله ، لقد أمرت به معروفا ، الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام ، فقد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج ابن عباس بالمدينة ، وكان العباس أكثرهم رقيقا . فقال : إن شئت فعلت ، أي إن شئت قتلنا . قال : كذبت ، بعدما تكلموا بلسانكم ، وصلوا قبلتكم ، وحجوا حجكم ؟ فاحتمل إلى بيته ، فانطلقنا معه وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ ، فقائل يقول : لا بأس ، وقائل يقول : أخاف عليه ، فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جوفه ، ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جرحه ، فعلموا أنه ميت ، فدخلنا عليه ، وجاء الناس يثنون عليه ، وجاء رجل شاب فقال : أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقدم في الإسلام ما قد علمت ، ثم وليت فعدلت ، ثم شهادة . قال : وددت أن ذلك كفاف ، لا علي ولا لي . فلما أدبر ، إذا إزاره يمس الأرض ، قال : ردوا علي الغلام . قال : ابن أخي ، ارفع ثوبك ، إنه أبقى لثوبك ، وأتقى لربك . يا عبد الله بن عمر ، انظر ما علي من الدين ، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفا أو نحوه . قال : إن وفى له مال آل عمر فأده من أموالهم ، وإلا فسل بني عدي بن كعب ، فإن لم تف أموالهم ، فسل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم ، فأد عني هذا المال ، وانطلق إلى عائشة فقل : يقرأ عليك عمر السلام ، ولا تقل أمير المؤمنين ، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا ، وقل : يستأذن أن يدفن مع صاحبيه . فسلم واستأذن ، ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي ، فقال : يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام ، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه . فقالت : كنت أريده لنفسي ، ولأوثرن به اليوم على نفسي . فلما أقبل قيل : هذا عمر بن الخطاب عبد الله بن عمر قد جاء ، قال : ارفعوني ، فأسنده رجل إليه ، فقال : ما لديك ؟ قال : الذي تحب يا أمير المؤمنين ، أذنت . قال : الحمد لله ، ما كان من شيء أهم إلي من ذلك ، فإذا أنا قضيت فاحملوني ، ثم سلم فقل : يستأذن ، فإن أذنت لي فأدخلوني ، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين . وجاءت عمر بن الخطاب - رضي الله عنها ، والنساء تسير معها ، فلما رأيناها قمنا ، فولجت عليه فبكت عنده ساعة ، واستأذن الرجال فولجت داخلا [ ص: 1159 ] لهم فسمعنا بكاءها من الداخل ، فقالوا : أوص يا أمير المؤمنين ، استخلف . قال : ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض ، فسمى أم المؤمنين حفصة عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن ، وقال : ليشهدكم عبد الله بن عمر ، وليس له من الأمر شيء - كهيئة التعزية له - فإن أصابت الإمرة سعدا فهو ذاك ، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر ، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة ، وقال : أوصى الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ، ويحفظ لهم حرمتهم ، وأوصيه بالأنصار خيرا الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم ، وأن يعفو عن مسيئهم ، وأوصيه بأهل الأمصار خيرا ، فإنهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو ، وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم ، وأوصيه بالأعراب خيرا ، فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام أن يؤخذ من حواشي أموالهم وترد على فقرائهم ، وأوصيه بذمة الله وذمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يوفي لهم بعهدهم ، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوا إلا طاقتهم ، فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي ، فسلم عبد الله بن عمر قال : يستأذن ، قالت : أدخلوه . فأدخل ، فوضع هنالك مع صاحبيه . فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط ، فقال عمر بن الخطاب عبد الرحمن : اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم ، فقال الزبير : قد جعلت أمري إلى علي ، فقال طلحة : قد جعلت أمري إلى عثمان ، وقال سعد : قد جعلت أمري إلى . فقال عبد الرحمن بن عوف عبد الرحمن : أيكما تبرأ من هذا الأمر فلنجعله إليه ، والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه ؟ فأسكت الشيخان ، فقال عبد الرحمن : أفتجعلونه إلي ، والله على أن لا آلو عن أفضلكم ؟ قالا : نعم ، فأخذ بيد أحدهما فقال : لك من قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقدم في الإسلام ما قد علمت ، فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن ، ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن ؟ ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك ، فلما أخذ الميثاق قال : ارفع يدك يا عثمان ، فبايعه وبايع له علي - رضي الله عنه ، وولج أهل الدار فبايعوه - رضي الله عنهم - أجمعين .
[ ص: 1160 ] وكانت - عشر سنين وستة أشهر ، وكانت وفاته على المشهور لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين ، وله من العمر ثلاث وستون سنة على الأشهر ، وهي السن التي توفي لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، ثم مدة خلافة الفاروق - رضي الله عنه - رضي الله عنه . أبو بكر الصديق
وبويع لعثمان في ثلاث من المحرم دخول سنة أربع وعشرين ، وأول من بايعه ، ثم عبد الرحمن بن عوف ، ثم بقية أصحاب الشورى ، ثم بقية أهل الدار ، ثم بقية علي بن أبي طالب المهاجرين والأنصار - رضي الله عنهم - أجمعين .