الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

      الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

      صفحة جزء
      هل رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه ليلة المعراج ؟

      واختلف السلف الصالح هل رأى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه ليلة المعراج ؟ فروى ابن خزيمة وغيره ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم ، والكلام لموسى ، والرؤية لمحمد - صلى الله عليه وسلم . وعن عكرمة قال : سمعت ابن عباس وسئل : هل رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه ؟ قال : نعم . قال : فقلت لابن عباس : أليس يقول الله تعالى : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) ، ( الأنعام 103 ) ، قال : لا أم لك ، ذلك نوره إذا تجلى بنوره ، لم يدركه شيء . وروى عنه من طرق لا تحصى كثرة قال : رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه ، وعنه رآه بقلبه . وفي رواية : رآه بفؤاده مرتين . رواه مسلم وغيره ، وله عن أبي ذر قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 1069 ] هل رأيت ربك ؟ قال : نور أنى أراه ؟ وفي رواية قال : رأيت نورا .

      قال ابن خزيمة في قوله " نور أنى أراه " : هذا يحتمل معنيين على سعة لسان العرب : أحدهما الإثبات ومعناه إني أراه ، أو كيف أراه فهو نور ، أو فإن ما رأى نور .

      ويؤيد هذا رواية " رأيت نورا " .

      المعنى الثاني : النفي ، قال : والعرب قد تقول " أنى " على معنى النفي ، كقوله - عز وجل : ( قالوا أنى يكون له الملك علينا ) ، ( البقرة 247 ) الآية ، يريدون كيف يكون له الملك علينا ، ونحن أحق بالملك منه ؟ ثم روى ، عن أبي ذر قال : رآه بقلبه ، ولم يره بعينه .

      وله عن عباد بن منصور قال : سألت الحسن فقلت : ( ثم دنا فتدلى ) ، ( النجم 8 ) من ذا يا أبا سعيد ؟ قال : ربي . وله عن المبارك بن فضالة قال : كان الحسن يحلف بالله ، لقد رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه . وله عن كعب قال : إن الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد - صلوات الله عليهما - فرآه محمد مرتين ، وكلم موسى مرتين .

      وروى ابن أبي حاتم ، عن عباد بن منصور قال : سألت عكرمة عن قوله : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) ، ( النجم 11 ) ، فقال عكرمة : تريد أن أخبرك أنه قد رآه ؟ قلت : نعم . قال : قد رآه ، ثم قد رآه .

      وروى ابن جرير ، عن محمد بن كعب ، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قلنا : يا رسول الله ، هل رأيت ربك ؟ قال : لم أره [ ص: 1070 ] بعيني ، ورأيته بفؤادي مرتين ، ثم تلا ( ثم دنا فتدلى ) ، ( النجم 8 ) . وقال البغوي : وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه ، وهو أنس والحسن وعكرمة قالوا : رأى محمد ربه . قال ابن كثير : وقول البغوي فيه نظر .

      وروى البخاري ومسلم ، عن مسروق قال : قلت لعائشة - رضي الله عنها : يا أمتاه ، هل رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه ؟ فقالت : لقد قف شعري مما قلت ، أين أنت من " ثلاث من حدثكهن ، فقد كذب : من حدثك أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه ، فقد كذب ، ثم قرأت ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) ، ( الأنعام 103 ) ، ( ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ) ، ( الشورى 51 ) ، ومن حدثك أنه يعلم ما في غد ، فقد كذب ، ثم قرأت ( وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ) ، ( لقمان 34 ) ، ومن حدث أنه كتم ، فقد كذب ، ثم قرأت ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) ، ( المائدة 67 ) الآية ، ولكنه رأى جبريل - عليه السلام - في صورته مرتين . هذا لفظ البخاري .

      ولفظ مسلم ، عن مسروق قال : كنت متكئا عند عائشة - رضي الله عنها - فقالت : يا أبا عائش ، ثلاث من تكلم بواحدة منهن ، فقد أعظم على الله الفرية ، قلت : ما هن ؟ قالت : من زعم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه ، فقد أعظم على الله الفرية . قال : وكنت متكئا ، فجلست فقلت : يا أم المؤمنين ، أنظريني ولا تعجليني ، ألم يقل الله - عز وجل : ( ولقد رآه بالأفق المبين ) ، ( التكوير 23 ) ، ( ولقد رآه نزلة أخرى ) ، ( النجم 13 ) ؟ فقالت : أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إنما هو جبريل ، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين ، منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض . [ ص: 1071 ] فقالت : أو لم تسمع أن الله يقول : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) ، ( الأنعام 103 ) ؟ أو لم تسمع أن الله يقول : ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ) ، ( الشورى 51 ) ؟ قالت : ومن زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتم شيئا من كتاب الله ، فقد أعظم على الله الفرية ، والله يقول : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) ، ( المائدة 67 ) ، قالت : ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد ، فقد أعظم على الله الفرية ، والله يقول : ( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ) ، ( النمل 65 ) ، وزاد في رواية قالت : ولو كان محمد - صلى الله عليه وسلم - كاتما شيئا مما أنزل إليه ، لكتم هذه الآية ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) ، ( الأحزاب 37 ) .

      وعن أبي هريرة وابن مسعود في آية النجم مثل قول عائشة .

      [ ص: 1072 ] قال أبو بكر بن خزيمة - رحمه الله - في قول عائشة - رضي الله عنها - " فقد أعظم على الله الفرية " قال : هذه لفظة أحسب عائشة تكلمت بها في وقت غضب ، كانت لفظة أحسن منها يكون فيها درك لبغيتها ، كان أجمل بها ، ليس يحسن في اللفظ أن يقول قائل أو قائلة : قد أعظم ابن عباس الفرية وأبو ذر وأنس بن مالك وجماعات من الناس الفرية على ربهم ، ولكن قد يتكلم المرء عند الغضب باللفظة التي يكون غيرها أحسن وأجمل منها ، أكثر ما في هذا أن عائشة - رضي الله عنها - وأبا ذر وابن عباس - رضي الله عنهما - وأنس بن مالك - رضي الله عنه - قد اختلفوا : هل رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه ؟ فقالت عائشة - رضي الله عنها : لم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه . وقال أبو ذر وابن عباس - رضي الله عنهما : قد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه . وقد أعلمت في مواضع من كتبنا أن النفي لا يوجب علما ، والإثبات هو الذي يوجب العلم ، لم تحك عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خبرها أنه لم ير ربه - عز وجل ، وإنما تلت قوله - عز وجل : ( لا تدركه الأبصار ) ، ( الأنعام 103 ) ، وقوله : ( ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا ) ، ( الشورى 51 ) ، ومن تدبر هاتين الآيتين ووفق لإدراك الصواب ، علم أنه ليس في واحدة من الآيتين ما يستحق من قال : إن محمدا رأى ربه الرمي بالفرية على الله ، كيف بأن يقول قد أعظم الفرية على الله ، ثم قال : رحمه الله [ ص: 1073 ] تعالى : فقد ثبت عن ابن عباس إثباته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد رأى ربه ، وبيقين يعلم كل عالم أن هذا ليس من الجنس الذي يدرك بالعقول والآراء والجنان والظنون ، ولا يدرك مثل هذا العلم إلا من طريق النبوة ، إما بكتاب أو بقول نبي مصطفى ، ولا أظن أحدا من أهل العلم يتوهم أن ابن عباس قال : رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه برأي ولا ظن لا ولا أبو ذر ولا أنس بن مالك .

      نقول كما قال معمر بن راشد لما ذكر اختلاف عائشة - رضي الله عنها - وابن عباس في هذه المسألة : ما عائشة عندنا أعلم من ابن عباس ، نقول : عائشة الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله عالمة فقيهة ، كذلك ابن عباس - رضي الله عنهما - ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - قد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - له أن يرزق الحكمة والعلم ، وهذا المعنى من الدعاء وهو المسمى ترجمان القرآن ، وقد كان الفاروق - رضي الله عنه - يسأله عن معاني القرآن فيقبل منه ، وإن خالفه غيره ممن هو أكبر سنا منه وأقدم صحبة للنبي - صلى الله عليه وسلم ، وإذا اختلفا فمحال أن يقال قد أعظم ابن عباس الفرية على الله ; لأنه قد أثبت شيئا نفته عائشة - رضي الله عنها ، والعلماء لا يطلقون هذه اللفظة ، وإن غلط بعض العلماء في معنى الآية من كتاب الله - عز وجل - أو خالف سنة أو سننا من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تبلغ المرء تلك السنن ، فكيف يجوز أن يقال أعظم الفرية على الله من أثبت شيئا لم ينفه كتاب ولا سنة ، فتفهموا هذا لا تغالطوا ، ثم قال - رحمه الله تعالى : وقد كنت قديما أقول : إن عائشة حكت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كانت تعتقد في هذه المسألة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ير ربه - جل وعلا - وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمها ذلك ، وذكر ابن عباس - رضي الله عنهما - وأنس بن مالك وأبو ذر - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى ربه لعلم كل عالم يفهم هذه الصناعة ، أن الواجب من طريق العلم والفقه قبول قول من روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى ربه ، إذ جائز أن تكون عائشة - رضي الله عنها - سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : لم أر ربي قبل أن يرى ربه - عز وجل ، ثم يسمع غيرها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبر أنه قد رأى ربه بعد رؤيته ربه ، فيكون الواجب من طريق العلم قبول خبر من أخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه . انتهى كلامه ، رحمه الله .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية