( فصل ) : ، وهو تعالى الذي منحهم إياها وأقدرهم عليها ، وجعلها قائمة بهم مضافة إليهم حقيقة ، وبحسبها كلفوا عليها يثابون ويعاقبون ، ولم يكلفهم الله تعالى إلا وسعهم ولم يحملهم إلا طاقتهم ، [ ص: 941 ] وقد أثبت الله تعالى ذلك لهم في الكتاب والسنة ، ووصفهم به ، ثم أخبر تعالى أنهم لا يقدرون إلا على ما أقدرهم الله تعالى عليه ، ولا يشاءون إلا أن يشاء الله - عز وجل ، ولا يفعلون إلا بجعله إياهم فاعلين ، كما جمع تعالى بين ذلك في غير ما موضع من كتابه كقوله - عز وجل : ( وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم مشيئة ، والله تعالى خالقهم وخالق قدرتهم ومشيئتهم وأقوالهم وأعمالهم من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ) ، ( الأعراف 178 ) ، وقال تعالى : ( إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما ) ، ( المزمل 19 ) ، وقال تعالى : ( إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) ، ( التكوير 27 - 29 ) وقال تعالى : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ، ( البقرة 286 ) الآية ، وقال تعالى : ( لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ) ، ( الطلاق 7 ) ، وقال تعالى : ( وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ) ، ( الزخرف 72 ) أي بسببه ، وقال تعالى : ( وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون ) ، ( السجدة 24 ) ، . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم : الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له
وقال - رحمه الله تعالى : باب ( البخاري وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) ، ( الأعراف 43 ) ، ( لو أن الله هداني لكنت من المتقين ) ، ( الزمر 57 ) ، حدثنا أبو النعمان ، أخبرنا ، عن جرير هو ابن حازم أبي إسحاق ، عن - رضي الله عنه - قال : البراء بن عازب الخندق ينقل معنا التراب ، وهو يقول : والله ، لولا الله ما اهتدينا ، ولا صمنا ولا صلينا ، فأنزلن سكينة علينا ، وثبت الأقدام إن لاقينا ، والمشركون قد بغوا علينا ، إذا أرادوا فتنة أبينا . رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم
[ ص: 942 ] فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) ، ( الزلزلة 7 - 8 ) وغير ذلك ما لا يحصى ، وقد تقدم منها جملة وافية في إثبات الإرادة والمشيئة والخلق ، فكما لم يوجد العباد أنفسهم ، لم يوجدوا أفعالهم ، فقدرتهم وإرادتهم ومشيئتهم وأفعالهم تبع لقدرة الله - سبحانه - وإرادته ومشيئته وأفعاله ، إذ هو تعالى خالقهم وخالق قدرتهم ومشيئتهم وإرادتهم وأفعالهم ، وليس مشيئتهم وإرادتهم وقدرتهم وأفعالهم هي عين مشيئة الله تعالى وإرادته وقدرته وفعله ، كما ليسوا هم إياه تعالى الله عن ذلك ، بل أفعالهم المخلوقة لله قائمة بهم لائقة بهم مضافة إليهم حقيقة ، وهي من آثار أفعال الله تعالى القائمة به اللائقة به المضافة إليه حقيقة ، فالله فاعل حقيقة والعبد منفعل حقيقة ، والله تعالى هاد حقيقة ، والعبد مهتد حقيقة ، ولهذا أضاف تعالى كلا من الفعلين إلى من قام به فقال - عز وجل : ( وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحمر : ما أنزل الله علي فيها شيئا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة ( من يهد الله فهو المهتد ) ، ( الإسراء 97 ) ، فإضافة الهداية إلى الله تعالى حقيقة ، وإضافة الاهتداء إلى العبد حقيقة ، وكما أن الهادي تعالى ليس هو عين المهتدي ، فكذلك ليست الهداية هي عين الاهتداء ، وكذلك يضل الله تعالى من يشاء حقيقة ، وذلك العبد يكون ضالا حقيقة ، وهو سبحانه وتعالى خالق المؤمن وإيمانه ، والكافر وكفره كما قال - جل وعلا : ( هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير ) ، ( التغابن 2 ) أي هو الخالق لكم على هذه الصفة ، وأراد منكم ذلك كونا لا شرعا ، فلا بد من وجود مؤمن وكافر ، وهو البصير بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلال ، وهو شهيد على أعمال عباده وسيجزيهم بها أتم الجزاء ، ولهذا قال تعالى : ( والله بما تعملون بصير ) فأضاف الله تعالى الخلق الذي هو فعله القائم به إليه حقيقة ، وأضاف الإيمان والكفر الذي هو عملهم القائم بهم إليهم حقيقة ، والله - تبارك وتعالى - هو الذي جعلهم كذلك ، وهم فعلوه باختيارهم وقدرتهم ومشيئتهم التي منحهم الله إياها ، وخلقها فيهم ، وأمرهم ونهاهم بحسبها .