هذا ومن أعمال أهل الشرك من غير ما تردد أو شك ما يقصد الجهال من تعظيم ما
لم يأذن الله بأن يعظما كمن يلذ ببقعة أو حجر
أو قبر ميت أو ببعض الشجر [ ص: 513 ] متخذا لذلك المكان
عيدا كفعل عابدي الأوثان
( هذا ) ; أي الأمر والإشارة إلى ما تقدم ( ومن أعمال أهل الشرك ) التي لا يفعلها غيرهم ولا تليق إلا بعقولهم السخيفة وأفئدتهم الضعيفة وقلوبهم المطبوع عليها ، وأبصارهم المغشي عليها ( ما ) أي الذي لم يأذن الله عز وجل في كتابه ولا سنة نبيه ( بأن يعظما ) بألف الإطلاق ، وأن ومدخولها في تأويل مصدر ; أي لم يأذن الله بتعظيمه ذلك التعظيم الذي منحه إياه من لم يفرق بين حق الله تعالى وحقوق عباده من النبيين والأولياء وغيرهم ، بل لم يفرق بين أولياء الله وأعدائه ، ولا بين طاعته ومعصيته فيتخذ من دون الله أندادا وهو يرى أن ذلك الذي فعله قربة وطاعة لله وأن الله يحب ذلك ويرضاه ، ويكذب الرسل ويدعي أنه من أتباعهم ، ويوالي أعداء الله وهو يظنهم أولياءه ، كفعل اليهود والنصارى يجاهرون الله بالمعاصي ويكذبون كتابه ويغيرونه ويبدلونه ويحرفون الكلم عن مواضعه ويقتلون الأنبياء بغير الحق وينسبون لله سبحانه وتعالى الولد ويفعلون الأفاعيل ، ويقولون نحن أبناء الله وأحباؤه وهم البغضاء إلى الله وأعداؤه .
وسبب هذا كله في الأمم الأولى والأخرى هو الإعراض عن الشريعة وعدم الاهتمام لمعرفة ما احتوت عليه الكتب من البشارة والنذارة والأمر والنهي والحلال والحرام والوعد والوعيد ، ومعرفة ما يجب لله على عباده فعله وما يجب تركه ، ( كمن يلذ ببقعة ) أي يعوذ بها ويختلف إليها ويتبرك بها ولو بعبادة الله تعالى عندها ، وتقدم تقييد ذلك بما لم يأذن به الله ، فيخرج بهذا القيد ما أذن الله تعالى بتعظيمه كتعظيم بيته الحرام بالحج إليه وتعظيم شعائر الله من المشاعر والمواقف وغيرها ، فإن ذلك تعظيم لله عز وجل الذي أمر بذلك لا لتلك البقعة ذاتها كما رضي الله عنه لما استلم الحجر الأسود : أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك عمر بن الخطاب . وكذلك التعظيم أيضا نفسه إنما أردنا منع تعظيم لم يأذن الله به لا المأذون فيه [ ص: 514 ] فإن الله تعالى قد أمر بتعظيم الرسل بأن يطاعوا فلا يعصوا ويحبوا ويتبعوا ، وأن طاعة الرسول هي طاعة الله عز وجل ومعصيته معصية الله عز وجل ، فهذا تعظيم لا يتم الإيمان بالله إلا به ; إذ هو عين تعظيم الله تعالى ، فإنهم إنما عظموا لأجل عظمة المرسل سبحانه وتعالى ، وأحبوا لأجله واتبعوا على شرعه ، فعاد ذلك إلى تعظيم الله عز وجل ، فلو أن أحدا عظم رسولا من الرسل بما لم يأذن الله به ورفعه فوق منزلته التي أنزله الله عز وجل وغلا فيه حتى اعتقد فيه شيئا من الإلهية لانعكس الأمر وصار عين التنقص والاستهانة بالله وبرسله كفعل قال اليهود والنصارى الذي ذكر الله عز وجل عنهم من غلوهم في الأنبياء والصالحين كعيسى وعزير ، فكذبوا بالكتاب وتنقصوا الرب عز وجل بنسبة الولد إليه وغير ذلك ، وكذبوا الرسل في قوله : ( إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ) ( مريم : 30 ) فصار ذلك التعظيم في اعتقادهم هو عين التنقص والشتم ، سبحان الله عما يصفون وسلام على المرسلين .
( أوحجر أو قبر ميت ، أو ببعض الشجر ) أو غير ذلك من العيون ونحوها ، ولو بعبادة الله عندها ، فإن ذلك ذريعة إلى عبادتها ذاتها كما فعل إبليس لعنه الله بقوم نوح حيث أشار عليهم بتصوير صالحيهم ثم بالعكوف على قبورهم وصورهم وعبادة الله عندها إلى أن أشار عليهم بعبادتها ذاتها من دون الله تعالى فعبدوها ، ( متخذا لذلك المكان ) من القبور والأشجار والعيون والبقاع وغيرها ( عيدا ) أي ينتابها ويعتاد الاختلاف إليها ( كفعل عابدي الأوثان ) في تعظيمهم أوثانهم واعتيادهم إليها ، ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم العكوف على الأشجار وتعليق الأسلحة بها على جهة التعظيم تألها كما في الترمذي عن رضي الله عنه قال : أبي واقد الليثي حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عليها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها : " ذات أنواط " فمررنا بسدرة فقلنا : يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الله أكبر ، إنها السنن ، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى : ( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون ) لتركبن سنن من قبلكم " . خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
ولقد عمت البلوى [ ص: 515 ] بذلك وطمت في كل زمان ومكان ، حتى في هذه الأمة لا سيما زماننا هذا ما من قبر ولا بقعة يذكر لها شيء من الفضائل ولو كذبا إلا وقد اعتادوا الاختلاف إليها والتبرك بها ، حتى جعلوا لها أوقاتا معلومة يفوت عيدهم بفواتها ويرون من أعظم الخسارات أن يفوت الرجل ذلك العيد المعلوم ، وآل بهم الأمر إلى أن صنفوا في أحكام حجهم إليها كتبا سموها مناسك حج المشاهد ، ومن أخل بشيء منها فهو عندهم أعظم جرما ممن أخل بشيء من مناسك الحج إلى بيت الله الحرام ، وجعلوا لها طوافا معلوما كالطواف بالبيت الحرام ، وشرعوا تقبيلها كما يقبل الحجر الأسود ، حتى قالوا : إن زحمت فاستلم بمحجن أو أشر إليه ، قياسا على فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر الأسود ، وشرعوا لها نذورا من المواشي والنقود ، ووقفوا عليها الوقوف من العقارات والحرث وغيرها ، وغير ذلك من شرائعهم الشيطانية وقواعدهم الوثنية . وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر النصوص النبوية في سد ذرائع الشرك في الفصل الآتي وبالله التوفيق .