الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

      الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

      صفحة جزء
      [ الرياء والنفاق ]

      ثم اعلم أن الرياء قد أطلق في كتاب الله كثيرا ويراد به النفاق الذي هو أعظم الكفر وصاحبه في الدرك الأسفل من النار ، كما قال تعالى : [ ص: 493 ] ( كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين ) ( البقرة : 264 ) وقال تعالى : ( والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ) ( النساء : 38 ) وقال تعالى : ( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ) ( النساء : 142 ) وغير ذلك من الآيات النازلة في المنافقين بلفظ الرياء ، ومنها ما يصرح بمعناه دون لفظه ، كقوله تعالى : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) ( البقرة : 14 ) والآيات التي قبلها وبعدها وما في معناها . والفرق بين هذا الرياء الذي هو النفاق الأكبر ، وبين الرياء الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم شركا أصغر خفيا هو حديث الأعمال بالنيات ، وهو ما رواه الشيخان عن عمر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " ، فالنية هي الفرق في العمل في تعيينه وفيما يراد به ، وقد أطلقت النية في القرآن بلفظ الابتغاء وبلفظ الإرادة ، فإن كان الباعث على العمل هو إرادة الله والدار الآخرة وسلم من الرياء في فعله ، وكان موافقا للشرع ، فذلك العمل الصالح المقبول ، وإن كان الباعث على العمل هو إرادة غير الله عز وجل ، فذلك النفاق الأكبر ، سواء في ذلك من يريد به جاها ورئاسة وطلب دنيا ، ومن يريد حقن دمه وعصمة ماله وغير ذلك ، فهذان ضدان ينافي أحدهما الآخر لا محالة ، قال الله عز وجل : ( ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ) ( آل عمران : 145 ) وقال تعالى : [ ص: 494 ] ( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ) ( الإسراء : 18 - 19 ) .

      وقال تعالى : ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ) ( هود : 15 - 16 ) وقال تعالى : ( من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ) ( الشورى : 20 ) وقال تعالى يثني على عباده المخلصين : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) ( الإنسان : 8 - 9 ) وقال : ( إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) ( الليل : 20 ) وغير ذلك من الآيات .

      وإن كان الباعث على العمل هو إرادة الله عز وجل والدار الآخرة ، ولكن دخل عليه الرياء في تزيينه وتحسينه ، فذلك هو الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم " الشرك الأصغر " وفسره بالرياء العملي ، وزاده إيضاحا بقوله : " يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه " وهذا لا يخرج من الملة ، ولكنه ينقص من العمل بقدره ، وقد يغلب على العمل فيحبطه كله والعياذ بالله . اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة ، واجعلها لوجهك خالصة ، ولا تجعل لأحد فيها شيئا .

      وأما حديث أبي موسى رضي الله عنه في الصحيح قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه ، فمن في سبيل الله ؟ قال : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " فهذا الحديث يحتمل المعنيين ، وتعينه لأحدهما النية ، فإن كان أصل العمل لغير الله فهو النفاق ، وإن كان أصله لله وأحب مع [ ص: 495 ] ذلك أن يذكر ويثنى عليه به فهو المعنى الذي سبق في حديث عبادة رضي الله عنه في " الرجل يصلي يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد " الحديث . وفي آخره قال : " ليس له شيء " . والله تعالى أعلم .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية