الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

      الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

      صفحة جزء
      وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في خاتمة كتابه الإغاثة : فصل وتلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام له أسباب عديدة ، تلاعب بكل قوم على قدر عقولهم : فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى [ ص: 470 ] الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم كما تقدم عن قوم نوح عليه السلام ، ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتخذين على القبور المساجد والسرج ، ونهى عن الصلاة إلى القبور ، وسأل ربه سبحانه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد ، ونهى أمته أن يتخذوا قبره عيدا ، وقال : " اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " وأمر بتسوية القبور وطمس التماثيل . قلت : وسنذكر الأحاديث المسندة في ذلك قريبا إن شاء الله تعالى .

      قال : فأبى المشركون إلا خلافه في ذلك كله إما جهلا وإما عنادا لأهل التوحيد ، ولم يضرهم ذلك شيئا ، وهذا السبب هو الغالب على عوام المشركين ، وأما خواصهم فإنهم اتخذوها بزعمهم على صور الكواكب المؤثرة في العالم عندهم ، وجعلوا لها بيوتا وسدنة وحجابا وحجا وقربانا ، ولم يزل هذا في الدنيا قديما وحديثا ، فمنها بيت على رأس جبل بأصبهان كانت به أصنام أخرجها بعض ملوك المجوس وجعله بيت نار .

      ومنها بيت ثان وثالث ورابع بصنعاء بناه بعض المشركين على اسم الزهرة فخربه عثمان رضي الله عنه ، ومنها بيت بناه قابوس الملك على اسم الشمس بمدينة فرغانة فخربه المعتصم ، وأشد الأمم في هذا النوع من الشرك الهند . قال يحيى بن بشر : إن شريعة الهند وضعها لهم رجل يقال له برهمن ووضع لهم أصناما ، وجعل أعظم بيوتها بيتا بمدينة من مدائن السند ، وجعل فيه صنمهم الأعظم وزعم أنه بصورة الهيولي الأكبر ، وفتحت هذه المدينة في أيام الحجاج ، واسمها الملتان . إلى أن قال رحمه الله : وأصل هذا المذهب من مشركي الصابئة وهم قوم إبراهيم عليه السلام الذين ناظرهم في بطلان الشرك وكسر حجتهم بعمله ، وآلهتهم بيده ، فطلبوا تحريقه . وهذا مذهب قديم في العالم وأهله طوائف شتى ، فمنهم عباد الشمس زعموا أنها ملك من الملائكة لها نفس وعقل ، وهي أصل نور القمر والكواكب ، وتكون الموجودات السفلية كلها عندهم منها ، وهي عندهم ملك الفلك يستحق التعظيم والسجود والدعاء . ومن شريعتهم في عبادتها أنهم اتخذوا لها صنما بيده جوهر على نوع النار ، وله بيت خاص قد بنوه [ ص: 471 ] باسمه وجعلوا له الوقوف الكثيرة من القرى والضياع ، وله سدنة وقوام وحجبة يأتون البيت ويصلون فيه لها ثلاث كرات في اليوم ، ويأتيه أصحاب العاهات فيصومون لذلك الصنم ويصلون ويدعون ويستسقون به ، وهم إذا طلعت الشمس سجدوا كلهم ، وإذا غربت ، وإذا توسطت الفلك ، ولهذا يقارفها الشيطان في هذه الأوقات الثلاثة ; لتقع عبادتهم وسجودهم له ، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تحري الصلاة في هذه الأوقات ; قطعا لمشابهة الكفار ظاهرا ، وسدا لذريعة الشرك وعبادة الأصنام .

      قلت : وقد ذكر الله عز وجل عبادة الشمس عن أهل سبأ من أرض اليمن في عهد بلقيس ، كما حكى قول الهدهد حيث قال : ( وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ) ( النمل : 24 ) إلى آخر الآيات . وهداها الله تعالى إلى الإسلام على يد نبيه سليمان عليه السلام ، حيث قالت : ( رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) ( النمل : 44 ) .

      ثم قال ابن القيم رحمه الله تعالى : ( فصل ) وطائفة أخرى اتخذت للقمر صنما وزعموا أنه يستحق التعظيم والعبادة وإليه تدبير هذا العالم السفلي ، ومن شريعة عباده ، أنهم اتخذوا لهم صنما على شكل عجل ، ويجره أربعة ، وبيد الصنم جوهرة ، ويعبدونه ويسجدون له ويصومون له أياما معلومة من كل شهر ، ثم يأتون إليه بالطعام والشراب والفرح والسرور ، فإذا فرغوا من الأكل أخذوا في الرقص والغناء وأصوات المعازف بين يديه . ومنهم من يعبد أصناما اتخذوها على صور الكواكب وروحانياتها بزعمهم ، وبنوا لها هياكل ومتعبدات لكل كوكب منها هيكل يخصه وصنم يخصه وعبادة تخصه ، ومتى أردت الوقوف على هذا فانظر في كتاب " السر المكتوم في مخاطبة النجوم " المنسوب لابن خطيب الري تعرف [ ص: 472 ] عبادة الأصنام وكيفية تلك العبادة وشرائطها ، وكل هؤلاء مرجعهم إلى عبادة الأصنام ، فإنهم لا تستمر لهم طريق إلا بشخص خاص على شكل خاص ينظرون إليه ويعكفون عليه ، ومن هنا اتخذ أصحاب الروحانيات والكواكب أصناما زعموا أنها على صورها ، فوضع الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبود غائب ، فجعلوا الصنم على شكله وهيأته وصورته ليكون نائبا منابه وقائما مقامه ، وإلا فمن المعلوم أن عاقلا لا ينحت خشبة أو حجرا بيده ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده .

      ومن أسباب عبادتها أيضا أن الشياطين تدخل فيها وتخاطبهم منها وتخبرهم ببعض المغيبات عنهم وتدلهم على بعض ما يخفى عليهم وهم لا يشاهدون الشيطان ، فجهلتهم وسقطهم يظنون أن الصنم نفسه هو المتكلم المخاطب ، وعقلاؤهم يقولون : إن تلك روحانيات الأصنام . وبعضهم يقول : إنها الملائكة . وبعضهم يقول : إنها هي العقول المجردة . وبعضهم يقول : هي روحانيات الأجرام العلوية . وكثير منهم لا يسأل عما عهد ، بل إذا سمع الخطاب من الصنم اتخذه إلها ، ولا يسأل عما وراء ذلك .

      وبالجملة فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام والأوثان ولم يتخلص منها إلا الحنفاء أتباع ملة إبراهيم عليه السلام وعبادتها في الأرض من قبل نوح عليه السلام كما تقدم ، وهياكلها ووقوفها وسدنتها وحجابها ، والكتب المصنفة في شرائح عبادتها طبق الأرض . قال إمام الحنفاء : ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس ) ( إبراهيم : 35 - 36 ) والأمم التي أهلكها الله تعالى بأنواع الهلاك كلهم يعبدون الأصنام ، كما قص الله عز وجل ذلك عنهم في القرآن وأنجى الرسل وأتباعهم من الموحدين . ويكفي في معرفة كثرتهم وأنهم أكثر أهل الأرض ما صح عن النبي [ ص: 473 ] صلى الله عليه وسلم أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ، وقد قال الله تعالى : ( فأبى أكثر الناس إلا كفورا ) ( الإسراء : 89 ) وقال تعالى : ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) ( الأنعام : 116 ) وقال تعالى : ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) ( يوسف : 103 ) وقال تعالى : ( وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ) ( الأعراف : 102 ) .

      ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة لما أقدم عبادها على بذل نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها ، فهم يشاهدون مصارع إخوانهم وما حل بهم ولا يزيدهم ذلك إلا حبا لها وتعظيما ، ويوصي بعضهم بعضا بالصبر عليها وتحمل أنواع المكاره في نصرتها وعبادتها ، وهم يسمعون أخبار الأمم التي فتنت بعبادتها وما حل بهم من عاجل العقوبات ولا يثنيهم ذلك عن عبادتها . ففتنة عبادة الأصنام أشد من فتنة عشق الصور وفتنة الفجور بها ، والعاشق لا يثنيه عن مراده خشية عقوبة في الدنيا ولا في الآخرة وهو يشاهد ما يحل بأصحاب ذلك من الآلام والعقوبات والضرب والحبس والنكال والفقر ، غير ما أعد الله له في الآخرة وفي البرزخ ، ولا يزيده ذلك إلا إقداما وحرصا على الوصول والظفر بحاجته ، فهكذا الفتنة بعبادة الأصنام وأشد ، فإن تأله القلوب لها أعظم من تألهها للصور التي يريد منها الفاحشة بكثير . والقرآن بل وسائر الكتب الإلهية من أولها إلى آخرها مصرحة ببطلان هذا الدين وكفر أهله ، وأنهم أعداء الله وأعداء رسله ، وأنهم أولياء الشيطان وعباده ، وأنهم هم أهل النار الذين لا يخرجون منها ، وهم الذين حلت بهم المثلات ونزلت بهم العقوبات ، وأن الله سبحانه بريء منهم هو وجميع رسله وملائكته ، وأنه سبحانه لا يغفر لهم ولا يقبل لهم عملا ، وهذا معلوم بالضرورة من الدين الحنيف ، وقد أباح الله عز وجل لرسوله وأتباعه من الحنفاء دماء هؤلاء وأموالهم ونساءهم وأبناءهم ، وأمرهم بتطهير الأرض منهم حيث وجدوا ، وذمهم بسائر أنواع الذم وتوعدهم بأعظم أنواع العقوبة ، فهؤلاء في شق ورسل الله في شق . ثم قال رحمه الله تعالى : [ ص: 474 ] فصل

      ومن أسباب عبادة الأصنام الغلو في المخلوق وإعطاؤه فوق منزلته حتى جعلوا فيه حظا من الإلهية وشبهوه بالله تعالى ، وهذا هو التشبيه الواقع في الأمم الذي أبطله الله سبحانه وبعث رسله وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله ، فهو سبحانه ينفي وينهى أن يجعل غيره مثلا له وندا وشبها له ، لا أن يشبه هو بغيره إذ ليس في الأمم أمة جعلته سبحانه مثلا لشيء من مخلوقاته فجعلت المخلوق أصلا وشبهت به الخالق ، فهذا لا يعرف في طائفة من طوائف بني آدم ، وإنما الأول هو المعروف في طوائف أهل الشرك غلوا في من يعظمونه ويحبونه حتى شبهوه بالخالق وأعطوه خصائص الإلهية ، بل صرحوا أنه إله وأنكروا جعل الآلهة إلها واحدا وقالوا : اصبروا على آلهتكم ، وصرحوا بأنه إله معبود يرجى ويخاف ويعظم ويسجد له ويحلف باسمه ويقرب له القرابين ، إلى غير ذلك من خصائص العبادة التي لا تنبغي إلا لله تعالى . ثم ذكر رحمه الله تعالى في ذلك بحثا نفيسا فأجاد وأفاد ، ثم ذكر باقي طوائف المشركين من عباد النار والماء والحيوانات والملائكة وغيرهم من الثنوية والدهرية والفلاسفة ، وذكر من أوضاع شرائعهم الباطلة وأصولها وكيفية عبادتهم لما ألهوه ، ونقض ذلك عليهم أتم نقض ، تغمده الله برحمته .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية