الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل .

                  وأما قول الرافضي : " إن القرآن حيث ذكر إنزال السكينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم شرك معه المؤمنين إلا هذا الموضع ، ولا نقص أعظم منه " .

                  [ ص: 489 ] فالجواب : أولا [1] : أن هذا يوهم أنه [2] ذكر ذلك في مواضع متعددة وليس كذلك ، بل لم يذكر ذلك إلا في قصة حنين .

                  كما قال تعالى : ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها ) [ سورة التوبة : 25 ، 26 ] فذكر إنزال السكينة على الرسول والمؤمنين بعد أن ذكر توليتهم [3] مدبرين .

                  وقد ذكر إنزال السكينة على المؤمنين وليس معهم الرسول في قوله : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) [ سورة الفتح : 1 ] إلى قوله : ( هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ) [ سورة الفتح : 4 ] الآية ، وقوله : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم ) [ سورة الفتح : 18 ] .

                  ويقال : ثانيا : الناس قد تنازعوا في عود الضمير في قوله تعالى : ( فأنزل الله سكينته عليه ) [ سورة التوبة : 40 ] فمنهم من قال : إنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من قال : إنه عائد إلى أبي بكر لأنه أقرب المذكورين ولأنه كان محتاجا إلى إنزال السكينة [4] ، فأنزل السكينة عليه كما أنزلها على المؤمنين الذين بايعوه تحت الشجرة .

                  [ ص: 490 ] والنبي صلى الله عليه وسلم كان مستغنيا عنها في هذه الحال [5] لكمال طمأنينته بخلاف إنزالها يوم حنين ، فإنه كان محتاجا إليها لانهزام جمهور أصحابه وإقبال العدو نحوه [6] وسوقه ببغلته إلى العدو .

                  وعلى القول الأول يكون الضمير عائدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما عاد الضمير إليه في قوله : ( وأيده بجنود لم تروها ) [ سورة التوبة : 40 ] ; ولأن سياق الكلام كان في ذكره ، وإنما ذكر صاحبه ضمنا وتبعا .

                  لكن يقال : على هذا لما قال لصاحبه [7] : ( إن الله معنا ) والنبي صلى الله عليه وسلم هو المتبوع المطاع ، وأبو بكر تابع مطيع ، وهو صاحبه والله معهما ، فإذا حصل [8] للمتبوع في هذه الحال سكينة وتأييد كان ذلك للتابع أيضا بحكم الحال فإنه صاحب تابع لازم ، ولم يحتج أن يذكر هنا أبو بكر لكمال الملازمة والمصاحبة التي توجب مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في التأييد .

                  بخلاف حال المنهزمين يوم حنين ، فإنه لو قال : فأنزل الله سكينته على رسوله وسكت لم يكن في الكلام ما يدل على نزول السكينة عليهم لكونهم بانهزامهم فارقوا الرسول ، ولكونهم لم يثبت لهم من الصحبة المطلقة التي تدل على كمال الملازمة ما ثبت لأبي بكر .

                  [ ص: 491 ] وأبو بكر لما وصفه بالصحبه المطلقة الكاملة ، ووصفها في أحق [9] الأحوال أن يفارق الصاحب فيها صاحبه ، وهو حال شدة الخوف ، كان هذا دليلا بطريق الفحوى على أنه صاحبه وقت النصر والتأييد ، فإن من كان صاحبه في حال الخوف الشديد ، فلأن يكون صاحبه في حال حصول [10] النصر والتأييد أولى وأحرى فلم يحتج أن يذكر صحبته له في هذه الحال لدلالة الكلام والحال عليها .

                  وإذا علم أنه صاحبه في هذه الحال علم أن ما حصل للرسول من إنزال السكينة والتأييد بإنزال الجنود التي لم يرها الناس لصاحبه المذكور فيها أعظم مما لسائر الناس وهذا من بلاغة القرآن وحسن بيانه .

                  وهذا كما في قوله : ( والله ورسوله أحق أن يرضوه ) [ سورة التوبة : 62 ] [11] ، فإن الضمير [12] [ في قوله : ( أحق أن يرضوه ) ] [13] إن عاد إلى الله ، فإرضاؤه لا يكون إلا بإرضاء الرسول ، وإن عاد إلى الرسول فإنه لا يكون ( * إرضاؤه إلا بإرضاء الله ، فلما كان إرضاؤهما لا يحصل أحدهما إلا مع الآخر ، وهما يحصلان بشيء * ) [14] واحد ، والمقصود بالقصد الأول إرضاء الله وإرضاء الرسول تابع ، وحد الضمير في قوله : ( أحق أن يرضوه ) ، وكذلك وحد الضمير في قوله : ( فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها ) ; لأن نزول ذلك على أحدهما يستلزم مشاركة الآخر له ، إذ محال [ ص: 492 ] أن ينزل [15] ذلك على الصاحب دون المصحوب ، أو على المصحوب دون الصاحب الملازم [16] ، فلما كان لا يحصل ذلك إلا مع الآخر وحد الضمير ، وأعاده إلى الرسول فإنه هو المقصود والصاحب تابع له .

                  ولو قيل : فأنزل السكينة عليهما وأيدهما ، لأوهم أن أبا بكر شريك في النبوة ، كهارون مع موسى حيث قال : ( سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا ) الآية [ سورة القصص : 35 ] ، وقال : ( ولقد مننا على موسى وهارون ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم ونصرناهم فكانوا هم الغالبين وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم ) [ سورة الصافات : 114 - 118 ] ، فذكرهما أولا وقومهما فيما يشركونهما [17] فيه .

                  كما قال : ( فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) [ سورة الفتح : 26 ] إذ ليس في الكلام ما يقتضي حصول النجاة والنصر لقومهما إذا نصرا ونجيا ، ثم فيما يختص بهما ذكرهما بلفظ التثنية إذا كانا شريكين في النبوة لم يفرد موسى كما أفرد الرب نفسه بقوله : ( والله ورسوله أحق أن يرضوه ) [ سورة التوبة : 62 ] ، وقوله : ( أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله ) [ سورة التوبة : 24 ] .

                  فلو قيل : أنزل الله سكينته عليهما وأيدهما لأوهم الشركة ، بل عاد الضمير إلى الرسول المتبوع ، وتأييده تأييد لصاحبه التابع له الملازم بطريق الضرورة .

                  [ ص: 493 ] ولهذا لم ينصر النبي صلى الله عليه وسلم قط [18] في موطن إلا كان أبو بكر رضي الله عنه أعظم المنصورين بعده ، ولم يكن أحد من الصحابة أعظم يقينا وثباتا في المخاوف منه ، ولهذا قيل : لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح .

                  كما في السنن عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " هل رأى أحد منكم رؤيا ؟ " فقال رجل : أنا رأيت كأن ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر ، ثم وزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر ، ثم وزن عمر وعثمان فرجح عمر ، ثم رفع الميزان فاستاء لها النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " خلافة نبوة ، ثم يؤتي الله الملك من يشاء " [19] .

                  وقال أبو بكر بن عياش : ما سبقهم أبو بكر بصلاة ولا صيام ، ولكن بشيء وقر في قلبه .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية