الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وما جاءت به الأخبار النبوية الصحيحة حق كله ، فالخلافة [1] .

                  التامة التي أجمع عليها المسلمون ، وقوتل بها الكافرون ، وظهر بها الدين ، كانت خلافة أبي بكر وعمر وعثمان . وخلافة علي اختلف فيها أهل القبلة ، ولم يكن فيها زيادة قوة للمسلمين ، [ ولا قهر ] [2] .

                  ونقص للكافرين ، ولكن هذا لا يقدح في أن عليا كان خليفة راشدا مهديا ، ولكن لم يتمكن كما تمكن غيره ، ولا أطاعته الأمة كما أطاعت غيره ، فلم يحصل في زمنه من الخلافة التامة العامة ما حصل في زمن الثلاثة ، مع أنه من الخلفاء الراشدين المهديين .

                  وأما الذين قالوا : إن معاوية - رضي الله عنه - كان مصيبا في قتاله له [3] .

                  ، [ ص: 405 ] ولم يكن علي - رضي الله عنه - [4] ، في قتاله لمعاوية ، فقولهم أضعف من قول هؤلاء . وحجة هؤلاء أن معاوية - رضي الله عنه - كان طالبا [5] .

                  بدم عثمان - رضي الله عنه - ، وكان هو ابن عمه ووليه ، وبنو عثمان وسائر عصبته اجتمعوا إليه وطلبوا من علي أن يمكنهم من قتلة عثمان أو يسلمهم إليهم ، فامتنع علي من ذلك ، فتركوا مبايعته فلم [6] .

                  يقاتلوه ، ثم إن عليا بدأهم بالقتال فقاتلوه دفعا عن أنفسهم وبلادهم . قالوا : وكان علي باغيا عليهم .

                  وأما الحديث الذي روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعمار : " تقتلك الفئة الباغية " [7]

                  فبعضهم ضعفه ، وبعضهم تأوله . فقال بعضهم معناه : الطالبة [8] .

                  لدم عثمان - رضي الله عنه - ، كما قالوا : نبغي ابن عفان بأطراف الأسل . وبعضهم قال [9] .

                  : ما يروى عن معاوية - رضي الله عنه - أنه قال لما ذكر [10] .

                  له هذا الحديث : أونحن قتلناه ؟ إنما قتله علي وأصحابه حيث ألقوه بين أسيافنا .

                  وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه ذكر له هذا التأويل ، فقال : فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يكونون حينئذ قد قتلوا حمزة وأصحابه يوم أحد ؛ لأنه قاتل معهم المشركين .

                  [ ص: 406 ] وهذا القول لا أعلم له قائلا من أصحاب الأئمة الأربعة ونحوهم من أهل السنة ، ولكن هو قول كثير من المروانية [11] .

                  ومن وافقهم . ومن هؤلاء من يقول : إن عليا [12] .

                  شارك في دم عثمان ، فمنهم من يقول : إنه [13] .

                  أمر علانية ، ومنهم من يقول إنه [14] .

                  : أمر سرا ، ومنهم من يقول : بل رضي بقتله وفرح بذلك ، ومنهم من يقول غير ذلك . وهذا كله كذب على علي - رضي الله عنه - وافتراء عليه [15] .

                  ، فعلي - رضي الله عنه - لم يشارك [16] .

                  في دم عثمان ولا أمر ولا رضي . وقد روي عنه - وهو الصادق البار [17] .

                  - أنه قال : والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله . وروي عنه أنه قال : ما قتلت ولا رضيت . وروي عنه أنه سمع أصحاب معاوية يلعنون قتلة عثمان ، فقال : اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر ، والسهل والجبل . وروي أن أقواما [18] .

                  شهدوا عليه بالزور عند أهل الشام أنه شارك في دم عثمان [19] .

                  ، وكان هذا مما دعاهم إلى ترك مبايعته لما اعتقدوا أنه ظالم وأنه [20] .

                  من قتلة عثمان ، وأنه آوى قتلة عثمان لموافقته لهم على قتله .

                  [ ص: 407 ] وهذا وأمثاله [ مما ] [21] .

                  يبين شبهة الذين قاتلوه ، ووجه اجتهادهم في قتاله [22] .

                  ، لكن لا يدل على أنهم كانوا مصيبين في ترك مبايعته وقتاله ; وكون قتلة عثمان من رعيته لا يوجب أنه كان موافقا لهم [23] .

                  ، وقد اعتذر بعض الناس عن علي بأنه [24] .

                  لم يكن يعرف القتلة بأعيانهم ، أو بأنه كان [25] .

                  لا يرى قتل الجماعة بالواحد ، أو بأنه لم يدع عنده ولي الدم دعوى توجب الحكم له .

                  ولا حاجة إلى هذه الأعذار [26] .

                  ، بل لم يكن علي مع تفرق الناس عليه متمكنا من قتل قتلة عثمان إلا بفتنة تزيد الأمر شرا وبلاء ، ودفع أفسد الفاسدين بالتزام أدناهما أولى من العكس ؛ لأنهم كانوا عسكرا ، وكان لهم قبائل تغضب لهم ، والمباشر منهم للقتل ن ، م : القتل .

                  - وإن كان قليلا - فكان ردؤهم [27] " .

                  أهل الشوكة ، ولولا ذلك لم يتمكنوا . ولما سار طلحة والزبير إلى البصرة ليقتلوا قتلة عثمان ، قام بسبب ذلك حرب قتل فيها [28] .

                  خلق .

                  ومما يبين ذلك أن معاوية قد أجمع [29] .

                  الناس عليه بعد موت علي ، [ ص: 408 ] وصار أميرا على جميع المسلمين ، ومع هذا فلم [30] .

                  يقتل قتلة عثمان الذين كانوا قد بقوا [31] .

                  بل روي عنه أنه [ لما ] [32] .

                  قدم المدينة [33] ) .

                  حاجا فسمع الصوت في دار [34] .

                  عثمان : " يا أمير المؤمنيناه ، يا أمير المؤمنيناه " [35] .

                  ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : بنت عثمان تندب عثمان . فصرف [36] .

                  الناس ، ثم ذهب إليها فقال : يا ابنة عم إن الناس قد بذلوا لنا الطاعة على كره ، وبذلنا لهم حلما على غيظ ، فإن رددنا حلمنا ردوا طاعتهم ؛ ولأن تكوني بنت أمير المؤمنين خير من أن تكوني واحدة من عرض الناس ، فلا أسمعنك بعد اليوم ذكرت عثمان .

                  فمعاوية - رضي الله عنه - ، الذي يقول المنتصر له : إنه كان مصيبا في قتال علي ، لأنه كان طالبا لقتل [37] .

                  قتلة عثمان ، لما [38] .

                  تمكن وأجمع الناس عليه لم يقتل قتلة عثمان . فإن كان قتلهم واجبا ، وهو مقدور له ، كان فعله بدون قتال المسلمين أولى من أن يقاتل عليا وأصحابه لأجل ذلك ، ولو قتل معاوية قتلة عثمان لم يقع من الفتنة أكثر مما وقع ليالي [ ص: 409 ] صفين . وإن كان معاوية معذورا في كونه لم يقتل قتلة عثمان إما [39] .

                  لعجزه عن ذلك ، أو لما يفضي إليه ذلك من الفتنة وتفريق [40] .

                  الكلمة وضعف سلطانه ، فعلي أولى أن يكون معذورا [ أكثر ] [41] .

                  من معاوية ، إذ كانت الفتنة وتفريق [42]

                  الكلمة وضعف سلطانه بقتل القتلة لو سعى في ذلك أشد . ومن قال : إن قتل الخلق الكثير الذين قتلوا بينه وبين علي كان صوابا منه لأجل قتل قتلة عثمان ، فقتل ما هو دون ذلك لأجل قتل قتلة عثمان أولى أن يكون صوابا ، وهو لم يفعل ذلك لما تولى [43] .

                  ، ولم يقتل قتلة عثمان .

                  وذلك أن الفتن إنما يعرف ما فيها من الشر إذا أدبرت . فأما إذا أقبلت فإنها تزين ، ويظن أن فيها خيرا ، فإذا ذاق الناس ما فيها من الشر والمرارة والبلاء ، صار ذلك مبينا لهم مضرتها ، وواعظا لهم أن يعودوا في مثلها . كما أنشد [ بعضهم ] [44] . : -

                  الحرب أول ما تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول     حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها
                  ولت [45] . عجوزا غير ذات حليل [46] .

                  [ ص: 410 ]     شمطاء ينكر [47] .

                  لونها وتغيرت
                  [48] .

                  مكروهة للشم والتقبيل

                  [49] .

                  .

                  والذين دخلوا في الفتنة من الطائفتين لم يعرفوا ما في القتال من الشر ، ولا عرفوا مرارة الفتنة حتى وقعت ، وصارت [50] .

                  عبرة لهم ولغيرهم .

                  ومن استقرأ أحوال الفتن التي تجري بين المسلمين ، تبين له أنه ما دخل فيها أحد فحمد عاقبة دخوله ، لما يحصل له من الضرر في دينه ، ودنياه [51] .

                  . ولهذا كانت من باب المنهي عنه ، والإمساك عنها من المأمور به ، الذي قال الله فيه : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية