( التنبيه الثاني ) : أن الرسالة ضرورية للعباد لا غنى لهم عنها ، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء ، فإن الرسالة روح العالم ونوره وحياته ، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور ؟ والدنيا مظلمة ملعونة كلها إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة ، وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة [ ص: 260 ] وتناله حياتها وروحها فهو في ظلمة وهو من الأموات ، قال الله تعالى ( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) فهذا وصف المؤمن كان ميتا في ظلمة الجهل فأحياه الله بروح الرسالة وبنور الإيمان ، وجعل له نورا يمشي به في الناس .
وأما في الكافر فميت القلب في الظلمات ، وسمى الله تعالى رسالته روحا ، والروح إذا عدم فارقت الحياة ، قال تعالى : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ) الآية ، فالروح الحياة ، والنور الإضاءة المزيلة للظلمة ، فالكافر في ظلمات الكفر والشرك وهو ميت غير حي ، وإن كان فيه حياة بهيمية لكنه عادم الحياة الروحانية العلوية الناشئة عن الإيمان ، وبها يحصل للعبد الفوز والسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة ، فإن الله تعالى جعل الرسل عليهم الصلاة والسلام وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم ، وتكميل ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم ، فبعثوا جميعا بالدعوة إلى الله تعالى ، وتعريف الطريق الموصل إليه ، وبيان حالهم بعد الوصول إليه ، فأرشدوهم إلى توحيده تعالى وإثبات صفاته وإثبات القدر ، وذكر أيام الله تعالى في أوليائه وأعدائه ، وهي القصص التي قصها على العباد ، والأمثال التي ضربها لهم ، وأرشدوهم إلى العلم بتفصيل الشرائع والأمر والنهي والإباحة وبيان ما يحبه الله ويكرهه ، وكذلك بينوا لهم وجوب الإيمان باليوم الآخر والجنة والنار والثواب والعقاب ، وعلى هذه الثلاثة أصول مدار الخلق والأمر ، والسعادة والفلاح موقوفة عليها ، ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهة الرسل ، فإن العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها ، وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة كالمريض الذي يدرك الحاجة إلى الطب ومن يداويه ، ولا يهتدي إلى تفاصيل المرض ، وتنزيل الدواء عليه ، وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطبيب ، فإن آخر ما يعذب بعدم الطبيب موت الأبدان ، وأما إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها مات قلبه موتا لا ترجى الحياة معه أبدا ، وشقي شقاوة لا سعادة معها أبدا ، فلا فلاح إلا باتباع الرسول ، فإن الله تعالى خص بالفلاح أتباعه المؤمنين به ، وأنصاره كما قال تعالى : [ ص: 261 ] ( فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ) أي : لا مفلح إلا هم ، فالهدى والفلاح دائر حول ربع الرسالة وجودا وعدما ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - في قاعدة وجوب الاعتصام بالرسالة : وهذا مما اتفقت عليه الكتب المنزلة من السماء ، وبعثت به جميع الرسل المرسلة . وقال : ، فكما أنه لا صلاح في آخرته إلا باتباع الرسالة ، فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة ، فالإنسان مضطر إلى الشرع ، فإنه بين حركتين حركة يجلب بها ما ينفعه ، وحركة يدفع بها ما يضره ، والشرع هو النور الذي يبين ما ينفعه وما يضره ، فهو نور الله في أرضه ، وعدله بين عباده ، وحصنه الذي من دخله كان آمنا ، وليس المراد بالشرع التمييز بين النافع والضار بالحس ، فإن ذلك يحصل للحيوانات العجم ، فإن الحمار والجمل يفرق ويميز بين الشعير والتراب ، بل التمييز بين الأفعال التي تضر فاعلها في معاشه ومعاده ، والأفعال التي تنفعه في معاشه ومعاده ، كنفع الإيمان والتوحيد والعدل والبر والصدق والإحسان والأمانة والعفة والشجاعة والعلم والصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلة الأرحام وبر الوالدين والإحسان إلى الجيران والمماليك وأداء الحقوق وإخلاص العمل والتوكل على الله والاستعانة به والرضا بمواقع أقداره والتسليم لحكمه والتوكل عليه وتصديق رسله في كل ما أخبروا به ، وغير ذلك مما هو نفع وصلاح للعبد في دنياه وآخرته ، ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل المنافع والمضار في المعاش ، فمن أعظم نعم الله على عباده وأشرف منة عليهم أن أرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، وبين لهم الصراط المستقيم ، ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام وأشر حالا منها ، فمن قبل رسالة الله واستقام عليها فهو من خير البرية ، ومن ردها وخرج عنها فهو من شر البرية وأسوأ حالا من الكلب والخنزير ، وأحقر من كل حقير ، فالحمد لله الذي أرسل إلينا رسولا من أنفسنا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة وإن كنا من قبل لفي ضلال مبين ، ولا بقاء لأهل الأرض ما دامت آثار الرسالة موجودة فيهم . الرسالة ضرورية في صلاح العبد في معاشه ومعاده
[ ص: 262 ] فإذا درست آثار الرسل من الأرض ، وانمحت معالم هداهم أخرب الله العالم العلوي والسفلي وأقام القيامة ، وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسول كحاجتهم إلى الشمس والقمر والرياح والمطر ، ولا كحاجة الإنسان إلى حياته ، ولا كحاجة العين إلى ضوئها والجسم إلى الطعام والشراب ، بل أعظم من ذلك ، وأشد حاجة من كل ما يقدر ويخطر بالبال ، فالرسل عليهم الصلاة والسلام وسائط بين الله تعالى وبين خلقه في أمره ونهيه ، وهم السفراء بينه وبين عباده ، وكان خاتمهم وسيدهم وأكرمهم على ربه محمد - صلى الله عليه وسلم - وعليهم أجمعين يقول : يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة .
وقال تعالى في حقه ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " " . إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم ، عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب
وقال شيخ الإسلام في قاعدة عليه أفضل الصلاة والسلام : وهذا المقت كان لعدم هدايتهم بالرسل ، فرفع الله عنهم هذا المقت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعثه الله رحمة للعالمين ، ومحجة للمساكين ، وحجة على الخلائق أجمعين ، وافترض على العباد طاعته ومحبته وتوقيره وتعزيزه ، والقيام بأداء حقوقه ، وسد إليه جميع الطرق فلم يفتح لأحد إلا من طريقه ، وأخذ العهود والمواثيق بالإيمان به واتباعه على جميع الأنبياء والمرسلين ، وأمرهم أن يأخذوها على من اتبعهم من المؤمنين ، أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، فختم به الرسالة ، وهدى به من الضلالة ، وعلم به من الجهالة ، وفتح برسالته أعينا عميا ، وآذانا صما ، وقلوبا غلفا ، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها ، وتألفت بها القلوب بعد شتاتها ، فأقام به الملة العوجاء ، وأوضح به المحجة البيضاء ، وشرح له صدره ووضع عنه وزره ، ورفع له ذكره ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره ، أرسله - صلى الله عليه وسلم - على حين فترة من الرسل ، ودروس من الكتب ، حين حرف الكلم ، وبدلت الشرائع ، واستند كل قوم إلى ظلم آرائهم ، وحكموا على الله وبين عباده بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم النادة ، فهدى الله به الخلائق ، وأوضح به الطرائق ، وأخرج الناس به من [ ص: 263 ] الظلمات إلى النور ، وميز به بين نهج أهل الفلاح وأهل الفجور ، فمن اهتدى بهديه اهتدى ، ومن مال عن سبيله فقد ضل واعتدى ، فصلى الله وسلم عليه وسائر الرسل والأنبياء ما لاح نجم وبدا ، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن اقتدى . وجوب الاعتصام بالنبي