الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
[ ص: 364 ] ( ( فصل في الكلام على الذنوب ومتعلقاتها ) ) اعلم - وفقك الله تعالى - أن فرقة المعتزلة من أول فرقة أسسوا قواعد الخلاف ، لما ورد به ظاهر السنة وجرى عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان - رضي الله عنهم - في باب العقائد ، وذلك أن رئيسهم واصل بن عطاء اعتزل مجلس الحسن البصري ، يقرر أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر ، ويثبت المنزلة بين المنزلتين ، فقال له الحسن : اعتزل عنا . فسموا المعتزلة ، وهم سموا أنفسهم أصحاب العدل والتوحيد ; لقولهم بوجوب ثواب الصلاح والأصلح وثواب المطيع وعقاب العاصي على الله - تعالى ، ونفي الصفات القديمة عنه كما تقدم ذلك .

قال الحافظ العلامة شمس الدين محمد بن عبد الهادي الحنبلي من بني قدامة في مناقب شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - : أول خلاف حدث في الملة في الفاسق الملي هل هو كافر ، أو مؤمن ; فقالت الخوارج : إنه كافر ، وقالت الجماعة : إنه مؤمن ، وقالت طائفة المعتزلة : هو لا مؤمن ولا كافر منزلة بين منزلتين ، وخلدوه في النار ، واعتزلوا حلقة الحسن البصري وأصحابه ، فسموا معتزلة ، وأما أهل السنة فلم يخرجوه من الإسلام ولم يحكموا عليه بخلود في النار ، وإنما هو فاسق بكبيرته مؤمن بإيمانه ، وهو تحت مشيئة الله - تعالى - ; ولهذا قال :


( ( ويفسق المذنب بالكبيرة كذا إذا أصر بالصغيرة ) )


( ( لا يخرج المرء من الإيمان     بموبقات الذنب والعصيان ) )


( ( وواجب عليه أن يتوبا     من كل ما جر عليه حوبا ) )


( ( ويقبل المولى بمحض الفضل     من غير عبد كافر منفصل ) )


( ( ما لم يتب من كفره بضده     فيرتجع عن شركه وصده ) )


( ( ومن يمت ولم يتب من الخطا     فأمره مفوض لذي العطا ) )


( ( فإن يشأ يعف وإن يشا انتقم     وإن يشأ أعطى وأجزل النعم ) )

( ( ويفسق ) ) المسلم المكلف ( ( المذنب بـ ) ) إتيانه للمعصية ( ( الكبيرة ) ) أصل الفسوق الخروج عن الاستقامة والجور . وبه سمي العاصي فاسقا ، وفي الحديث " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الحية ، والغراب الأبقع ، [ ص: 365 ] ، والفأرة ، والكلب العقور ، والحدأة " وسميت فواسق لخروجها بالإيذاء والإفساد عن طريق معظم الدواب ، وسمي الرجل الفاسق لخروجه عن أمر الله ، والمذنب هو المقترف للذنب ، وهو الإثم كما في القاموس ، والجمع ذنوب ، وجمع الجمع ذنوبات ، قال تعالى : وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان قال في شرح منازل السائرين : الإثم والعدوان كل منهما إذا أفرد تضمن الآخر ، فكل إثم عدوان ؛ إذ هو فعل ما نهى الله عنه ، أو ترك ما أمر الله به ، فهو عدوان على أمره ونهيه ، وكل عدوان إثم ، فإنه يأثم به صاحبه ، ولكن عند اقترانهما فهما شيئان بحسب متعلقهما ووصفهما ، فالإثم ما كان محرم الجنس ؛ كالكذب والزنا وشرب الخمر ونحو ذلك ، والعدوان ما كان محرم القدر والزيادة بأن يتعدى ما أبيح منه إلى القدر المحرم كالاعتداء في أخذ الحق ممن هو عليه ، بأن يعتدي على ماله أو بدنه أو عرضه .

والكبيرة كل مصيبة فيها حد في الدنيا ، أو وعيد في الآخرة ، وزاد شيخ الإسلام : أو ورد فيها وعيد بنفي إيمان ، أو لعن ونحوهما . وقيل : ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب ، أو سنة . قال ابن عبد السلام الشافعي : لم أقف للكبيرة على ضابط سالم من الاعتراض ، وعدل إمام الحرمين عن تعريفها إلى حد السالب للعدالة ، فقال : كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ، ورقة الديانة ، فهي مبطلة للعدالة . وكل جريمة لا تؤذن بذلك ، بل يبقى حسن الظن بصاحبها - لا تحبط العدالة . وقد ذهب بعض العلماء إلى أن كل محرم كبيرة ، منهم الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ، والقاضي أبو بكر الباقلاني ، وإمام الحرمين الجويني ، بل حكاه ابن فورك عن الأشاعرة ، والصواب تقسيم الذنوب إلى كبيرة وصغيرة ، ويقال : إنه لا خلاف بين الفريقين في المعنى ، بل في التسمية والإطلاق ، لاتفاق الجميع على أن من المعاصي ما يقدح في العدالة ، ومنها ما لا يقدح ، والحامل لمن أطلق على الجميع اسم الكبيرة تعظيم الحضرة الإلهية من أن يكون العاصي له - تعالى - مرتكبا إلا معصية كبيرة ، فبالنظر للمعصية فمنها الكبائر ومنها الصغائر ، وبالنظر إلى المعصي فالجميع كبائر . وفي شرح البخاري للبدر العيني عن سعيد بن جبير - رحمه الله - قال رجل لابن عباس - رضي الله عنهما - الكبائر سبع ؟ فقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : هي إلى السبعمائة [ ص: 366 ] أقرب منها إلى السبع ، غير أنه لا كبيرة مع استغفار ، ولا صغيرة مع إصرار . وقد أوصلها علماؤنا إلى نيف وسبعين كبيرة كما في الإقناع وغيره . وقوله ( ( كذا ) ) أي مثل إتيانه الكبيرة ( ( إذا أصر ) ) على الجريمة الصغيرة ، يقال : أصر يصر على الشيء إصرارا ؛ إذا لزمه ودوامه وثبت عليه ، وأكثر ما يستعمل في الشر والذنوب ، وأما من أتبع الذنب الصغير بالاستغفار فليس بمصر عليه ، وإن تكرر منه ، وفي الحديث " ما أصر من استغفر " وفيه أيضا " ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون " فمن أصر فإنه يفسق حتى ( ( بـ ) ) الجريمة ( ( الصغيرة ) ) لأن الإصرار يصير الصغيرة في حكم الكبيرة .

قال بعض العلماء : تصير الصغيرة كبيرة بخمسة أشياء : الإصرار عليها ، والتهاون بها ، والفرح بها ، والافتخار بها ، وصدورها عن عالم فيقتدى به فيها . ثم ذكر ما عليه أهل السنة من أن إتيان الجريمة ، وإن كانت كبيرة - لا يخرج بها الشخص المؤمن عن الإيمان بقوله : ( ( لا يخرج المرء ) ) هو بتثليث الميم : الإنسان أو الرجل ، ولا يجمع من لفظه ، أو سمع مرؤون . قاله في القاموس ، وهي بهاء ، ويقال : مرة وامرأة ، وفي امرئ مع ألف الوصل ثلاث لغات : فتح الراء دائما ، وإعرابها دائما ، وتقول : هذا امرؤ ومرء ، ورأيت امرأ ومرءا ، ومررت بامرئ وبمرء معربا من مكانين .

كله من القاموس ( ( من الإيمان ) ) الآتي تعريفه فيما بعد ( ( بموبقات الذنب ) ) متعلقة بقوله " لا يخرج " والموبقات بموحدة وقاف : المهلكات جمع موبقة ، سميت بالجريمة الكبيرة بذلك ; لأنها سبب لإهلاك مرتكبها في الدنيا بما يترتب عليها من العقاب وفي الآخرة من العذاب . قال الحافظ ابن حجر : والمراد بالموبقة الكبيرة ، وفي الصحيحين وسنن أبي داود ، والنسائي وغيرها من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - " اجتنبوا السبع الموبقات : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات " وثبت في حديث أبي هريرة أيضا من وجه آخر : " الكبائر الشرك بالله " الحديث . وأخرج الطبراني عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قيل له : الكبائر سبع ؟ قال : هن أكثر من سبع وسبع . وفي رواية عنه : هي إلى السبعين . وفي رواية : إلى السبعمائة كما تقدم ، يعني باعتبار [ ص: 367 ] أصناف أنواعها .

والحكمة في الاقتصار على السبع المذكورة في الحديث مع ورود ما يزيد على السبعين في أحاديث متفرقة أن هذه موصوفة بصفة زائدة على مجرد الكبيرة ، وهي الموبقة ، أي المهلكة ، فإن قيل : قد ورد في عدة أحاديث " الكبائر سبع " ففي حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - عند الإمام أحمد في المسند وصحيح البخاري ، والترمذي ، والنسائي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " الكبائر : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وقذف المحصنة ، والفرار من الزحف ، وأكل الربا وأكل مال اليتيم ، والرجوع إلى الأعرابية بعد الهجرة " فعد في هذا الحديث ثمانية في بادي الرأي ، وكأنه عد الأكل للربا ولمال اليتيم واحدة . وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعا عند البزار بإسناد حسن " الكبائر : الشرك بالله ، والإياس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله " وفي حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - عند البيهقي بإسناد صحيح مرفوع " الكبائر : الإشراك بالله ، وقذف المحصنة ، وقتل النفس المؤمنة ، والفرار يوم الزحف ، وأكل مال اليتيم ، وعقوق الوالدين المسلمين ، وإلحاد بالبيت قبلتكم أحياء وأمواتا " إلى غير ذلك من الأحاديث التي وصف فيها الذنوب بالكبر مما يزيد عن السبعين . الجواب أن هذا مما يؤيد أن العدد لا مفهوم له ، أو أنه - صلى الله عليه وسلم - علم أولا بالسبع المذكورات ، ثم علم بما زاد ، فيجب الأخذ بالزائدة ، أو الاقتصار على السبع ، وقع بحسب المقام بالنسبة للسائل ، أو من وقعت له واقعة ، والأقوى أن التنصيص على السبع في كل حديث لزيادة عظمها .

ومن الكبائر الزنا ، وبحليلة الجار أشد ، وبالمحارم أشد وأشد ، فإن الجريمة الصغيرة قد تنقلب كبيرة بقرينة تضم إليها ، وتنقلب الكبيرة فاحشة ، فإن قتل النفس بغير حق كبيرة ، فإن قتل أصلا له ، أو فرعا ، أو ذا رحم ، أو بالحرم ، أو في الأشهر الحرم ، أو في رمضان فهو فاحشة ، وكذا الزنا ، وتفاصيل ذلك كثيرة جدا ، والمراد أن الإنسان لا يخرج من الإيمان بملابسته وإتيانه بموبقات الذنوب التي هي أكبر الكبائر ، و " أل " في الذنب للجنس ، أو الاستغراق فيشمل كل الذنوب ( ( والعصيان ) ) دون الشرك بالله - تعالى - ، والكفر به بأي [ ص: 368 ] أنواع المكفرات ، فإن ذلك يخرجه من الدين بيقين ، والعصيان ضد الطاعة ، وهو يرادف الذنب ، والإثم ، والجرم ، كذا البغي ، والعدوان ، والظلم ، ولكن قد يفهم من هذه تجاوز الحد المباح إلى ما وراءه ، وكذا الفحشاء ، والمنكر ، فالفحشاء صفة لموصوف قد حذف تجريدا لقصد الصفة ، وهي الفعلة الفحشاء ، والخصلة الفحشاء ، وهي ما ظهر قبحها لكل أحد ، واستخبثها كل ذي عقل سليم ; ولهذا فسر بالزنا ، واللواط ، وقد سماه الله فاحشة لتناهي قبحه ، وكذلك القبيح من القول يسمى فحشا ، وهو ما ظهر قبحه جدا من السب القبيح ، والقذف ونحوه ، وكذا المنكر صفة لموصوف محذوف ، أي الفعل المنكر ، وهو ما أنكرته العقول السليمة والفطر المستقيمة .

والحاصل أن الشخص المؤمن لا يخرج من الإيمان بملابسة كبائر الذنوب ، والعصيان . وقد اختلف الناس في هذه المسألة على طرق ، فطريق الخوارج أن من ارتكب كبيرة من الذنوب بل والصغيرة ; لأن عندهم كل ذنب كبيرة نظرا لعظمة من عصى ، وكل كبيرة كفر يخرج من الإيمان ويدخل الكفر ، ويخلد في النار ، قالوا : لأنه لا يخلد في النار إلا الكفار .

وطريق المعتزلة أنه يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر ، فهو في منزلة بين الكفر والإيمان ، ومن أصول المعتزلة إثبات المنزلة بين المنزلتين ، كما مر ، ومع ذلك هو خالد مخلد في النار مع قولهم أن مرتكبي الكبائر ليسوا بكفار بل هم فساق مخلدون في النار ، هذا كله عند الطائفتين إذا لم يتوبوا قبل معاينة الموت .

والحق مذهب أهل الحق من أهل السنة أن مرتكبي الكبيرة في مشيئة الله - تعالى - وعفوه ; لأن أصل الإيمان من التصديق بالله ، والمعرفة ، والإذعان موجود ، ونصوص الكتاب والسنة لا تدل إلا على هذا كقوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الآيتين ، وفي ذلك يقول : فمن عفي له من أخيه شيء فسماه أخا وقوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا وقوله وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا إلى قوله - تعالى - : إنما المؤمنون إخوة الآية ، وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أنه قال ، وحوله عصابة من أصحابه : " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا [ ص: 369 ] أولادكم ، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوني في معروف ، فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا ، وإن شاء عاقبه " قال : فبايعناه على ذلك . وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه - تعالى - : " ابن آدم لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم أتيتني لا تشرك بي شيئا ، أتيتك بقرابها مغفرة " أخرجه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح . وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس ، وأبو عوانة في مسنده من حديث أبي ذر ، وأيضا الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي ذر أيضا .

وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يقول الله - تعالى - : " من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ، ومن آتاني يمشي أتيته هرولة ، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا ، لقيته بقرابها مغفرة " وأخرج الإمام أحمد من رواية أخشن السدوسي قال : دخلت على أنس - رضي الله عنه - فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم الله لغفر لكم " وقال - صلى الله عليه وسلم - : " من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة " وقال : " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة " وقال : " إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله " ، وفي حديث الشفاعة : " أخرجوا من النار من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان " ، وفيه يقول الله - عز وجل - : " وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله " فالتوحيد من أعظم ، بل أعظم أسباب المغفرة ، فهو السبب الأعظم ، فمن فقده فقد المغفرة ، ومن جاء به فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة ، قال الله - تعالى - : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فدلت الآية مع حديث أنس أن من جاء مع التوحيد بملء الأرض خطايا لقيه الله بملئها مغفرة مع مشيئة الله - تعالى - ، فإن شاء غفر له ، وإن شاء واخذه بذنوبه ، ثم كان عاقبته ألا يخلد في النار ، بل يخرج منها ، ثم يدخل الجنة . قال بعض المحققين : الموحد لا يلقى في النار كما يلقى الكفار ، ولا يبقى فيها كما يبقى [ ص: 370 ] الكفار ، والنصوص على قول أهل الحق والأدلة كثيرة جدا . فدل الكتاب والسنة واتفاق الفرقة الناجية على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد .

وأما آية النساء ومن يقتل مؤمنا متعمدا فلها نظائر أمثالها من نصوص الوعيد ؛ كقوله - تعالى - : ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا وقوله : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا وكذلك ما ورد من السنة كقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها خالدا مخلدا في نار جهنم " ونظائره كثيرة ، فقالت فرقة : الوعيد في حق المستحل لها ; لأنه كافر ، وأما من فعلها غير مستحلها لم يلحقه وعيد الخلود ، وإن لحقه وعيد الدخول . وقد أنكر الإمام أحمد - رضي الله عنه - هذا القول ، وقال : لو استحل ذلك ولم يفعله كان كافرا ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قال من فعل كذا وكذا .

وقالت فرقة أخرى : الاستدلال بنصوص الوعيد هذه مبني على ثبوت العموم ، قالوا : وليس في اللغة ألفاظ عامة ، وقصدهم تعطيل هذه الأدلة عن استدلال المعتزلة والخوارج بها ، لكن ذلك يستلزم تعطيل جملة الشرع ، فهم ردوا باطلا بأبطل منه ، وبدعة بأقبح منها ، فكانوا كمن رام أن يبني قصرا فهدم مصرا .

وقالت فرقة أخرى : في الكلام إضمار ، فمنهم من قال بإضمار الشرط ، والتقدير : فجزاؤه كذا إن جازاه ، أو إن شاء ، ومنهم من قال بإضمار الاستثناء ، والتقدير : فجزاؤه كذلك إلا أن يعفو .

وقالت فرقة أخرى : هذا وعيد ، وإخلاف الوعيد لا يذم بل يمدح ، فيجوز على الله - تعالى - إخلاف الوعيد لا إخلاف الوعد ، والفرق بينهما أن الوعيد حقه ، فإخلافه عفو وهبة ، وإسقاط ذلك موجب كرمه وجوده وإحسانه ، والوعد أوجبه على نفسه بوعده ، والله لا يخلف الميعاد ; ولهذا مدح به كعب بن زهير - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال :


نبئت أن رسول الله أوعدني     والعفو عند رسول الله مأمول



وتناظر في هذه المسألة أبو عمرو بن العلاء وعمرو بن عبيد المعتزلي صاحب واصل بن عطاء ، فقال عمرو بن عبيد : يا أبا عمرو لا يخلف الله وعده وقد قال تعالى : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه [ ص: 371 ] فقال أبو عمرو : ويحك يا عمرو ، من العجمة أتيت ، إن العرب لا تعد إخلاف الوعيد ذما ، بل جودا وكرما ، أما سمعت قول الشاعر :


ولا يرهب ابن العم ما عشت صولتي     ولا يختشي من صولة المتهدد
وإني وإن أوعدته أو وعدته     لمخلف إيعادي ومنجز موعدي



وعلى كل حال قد قام الدليل على ذكر الموانع من إنفاذ الوعيد ، بعضها بالإجماع ، وبعضها بالنص ، فالتوبة مانع بالإجماع ، والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها ، والحسنات العظيمة الماحية مانعة ، والمصائب المكفرة مانعة ، وإقامة الحدود في الدنيا مانع بالنص ، فلا تعطل هذه النصوص وأضعاف أضعافها ، فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين ، ومن ثم قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات اعتبارا لمقتضى العقاب ومانعه ؛ إعمالا لأرجحهما ، وعلى هذا بناء مصالح الدارين ومفاسدهما وبناء الأحكام الشرعية والأحكام القدرية ، وهو مقتضى الحكمة السارية في الوجود ، وبه ارتباط الأسباب ومسبباتها خلقا وأمرا ، وقد جعل - تعالى - لكل ضد ضدا يدافعه ومانعا يمانعه ويكون الحكم للأغلب منهما . والحاصل - والله أعلم - كون المذنب الملي وإن كثرت ذنوبه وعظمت خطاياه ؛ في مشيئة مولاه ، إن شاء عذبه ، وإن شاء عافاه . وعلى كل حال خلود أهل التوحيد في النار من المحال . فالصواب اجتنابه ، وعدم الالتفات إليه ، والتعويل على مذهب أهل الحق ، والركون إليه . وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية