وأما الإشهاد عليهم هناك ، فإنما هو في حديثين موقوفين على ابن عباس وعمر رضي الله عنهم . ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف : إن إنما هو فطرتهم على التوحيد ، كما تقدم كلام المفسرين على هذه الآية الكريمة في حديث المراد بهذا الإشهاد رضي الله عنه . ومعنى قوله شهدنا : أي قالوا : بلى شهدنا أنك ربنا . وهذا قول أبي هريرة ابن عباس . وقال وأبي بن كعب أيضا : أشهد بعضهم على بعض . وقيل : شهدنا من قول الملائكة ، والوقف على قوله بلى . وهذا قول ابن عباس مجاهد والضحاك وقال أيضا : هو خبر من الله تعالى عن نفسه [ ص: 309 ] وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني السدي آدم . والأول أظهر ، وما عداه احتمال لا دليل عليه ، وإنما يشهد ظاهر الآية للأول .
واعلم أن من المفسرين من لم يذكر سوى آدم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم ، القول بأن الله استخرج ذرية كالثعلبي والبغوي وغيرهما . ومنهم من لم يذكره ، بل ذكر أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها الله فيهم ، وغيره ، ومنهم من ذكر القولين ، كالزمخشري كالواحدي والرازي والقرطبي وغيرهم ، لكن نسب الرازي القول الأول إلى أهل السنة ، والثاني إلى المعتزلة .
ولا ريب أن الآية لا تدل على القول الأول ، أعني أن الأخذ كان من ظهر آدم ، وإنما فيها أن الأخذ من ظهور بني آدم ، وإنما ذكر الأخذ من ظهر آدم والإشهاد عليهم هناك في بعض الأحاديث ، وفي بعضها الأخذ والقضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار ، كما في [ ص: 310 ] حديث عمر رضي الله عنه ، وفي بعضها الأخذ وإراءة آدم إياهم من غير قضاء ولا إشهاد ، كما في حديث . والذي فيه الإشهاد - على الصفة التي قالها أهل القول الأول - موقوف على أبي هريرة ابن عباس وعمر ، وتكلم فيه أهل الحديث ، ولم يخرجه أحد من أهل الصحيح غير الحاكم في المستدرك على الصحيحين والحاكم معروف تساهله رحمه الله .
والذي فيه القضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار دليل على مسألة القدر . وذلك شواهده كثيرة ، ولا نزاع فيه بين أهل السنة ، وإنما يخالف فيه القدرية المبطلون المبتدعون .
وأما الأول : فالنزاع فيه بين أهل السنة من السلف والخلف ، ولولا ما التزمته من الاختصار لبسطت الأحاديث الواردة في ذلك ، وما قيل من الكلام عليها ، وما ذكر فيها من المعاني المعقولة ودلالة ألفاظ الآية الكريمة .
قال القرطبي : وهذه الآية مشكلة ، وقد تكلم العلماء في تأويلها ، فنذكر ما ذكروه من ذلك ، حسب ما وقفنا عليه . فقال قوم : معنى الآية : أن الله أخرج من ظهر بني آدم بعضهم من بعض ، [ قالوا ] أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ، دلهم على توحيده ، لأن كل بالغ يعلم ضرورة أن له ربا واحدا . ومعنى ألست بربكم أي : [ ص: 311 ] قال ، فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم ، كما قال تعالى في السماوات والأرض : قالتا أتينا طائعين ( فصلت : 11 ) ، ذهب إلى هذا القفال وأطنب . وقيل : إنه سبحانه وتعالى أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد ، وإنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها . ثم ذكر القرطبي بعد ذلك الأحاديث الواردة في ذلك ، إلى آخر كلامه .
وأقوى ما يشهد لصحة القول الأول : حديث أنس المخرج في الصحيحين الذي فيه : آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي . ولكن قد روي من طريق أخرى : قد أردت منك ما هو أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر . وليس فيه : في ظهر قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل ، فيرد إلى النار آدم . وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم على الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول .
بل القول الأول متضمن لأمرين عجيبين :
أحدهما : كون الناس تكلموا حينئذ وأقروا بالإيمان وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يوم القيامة .
[ ص: 312 ] والثاني : أن الآية دلت على ذلك ، والآية لا تدل عليه لوجوه :
أحدها : أنه قال : من بني آدم ، ولم يقل : من آدم .
الثاني : أنه قال : من ظهورهم ، ولم يقل : من ظهره ، وهذا بدل بعض ، أو بدل اشتمال ، وهو أحسن .
الثالث : أنه قال : ذرياتهم ولم يقل : ذريته .
الرابع : أنه قال : وأشهدهم على أنفسهم ، ولا بد أن يكون الشاهد ذاكرا لما شهد به ، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار - كما تأتي الإشارة إلى ذلك - لا يذكر شهادة قبله .
الخامس : أنه سبحانه أخبر أن إقامة للحجة عليهم ، لئلا يقولوا يوم القيامة : حكمة هذا الإشهاد إنا كنا عن هذا غافلين ، والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها ، كما قال تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ( النساء : 165 ) .
السادس : تذكيرهم بذلك ، لئلا يقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين ( الأعراف : 172 ) ، ومعلوم أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعا ذلك الوقت ، فهذا لا يذكره أحد منهم .
[ ص: 313 ] السابع : أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم ( الأعراف : 173 ) ، فذكر حكمتين في هذا الإشهاد ؛ لئلا يدعوا الغفلة ، أو يدعوا التقليد ، فالغافل لا شعور له ، والمقلد متبع في تقليده لغيره . ولا تترتب هاتان الحكمتان إلا على ما قامت به الحجة من الرسل والفطرة . قوله تعالى :
الثامن : أفتهلكنا بما فعل المبطلون ( الأعراف : 173 ) ، أي لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك ، وهو سبحانه إنما يهلكهم بمخالفة رسله وتكذيبهم ، وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار بإرسال الرسل . قوله :
التاسع : أنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه ، واحتج عليه بهذا في غير موضع من كتابه ، كقوله : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ( لقمان : 25 ) ، فهذه هي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها ، وذكرتهم بها رسله ، بقولهم : أفي الله شك فاطر السماوات والأرض ( إبراهيم : 10 ) .
[ ص: 314 ] العاشر : أنه جعل هذا آية ، وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها [ بحيث لا يتخلف عنها المدلول ] وهذا شأن آيات الرب تعالى ، [ فإنها أدلة معينة على مطلوب معين مستلزمة للعلم به ] فقال تعالى : وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون ( الأعراف : 174 ) ، وإنما ذلك ، فما من مولود إلا يولد على الفطرة ، لا يولد مولود على غير هذه الفطرة ، هذا أمر مفروغ منه ، لا يتبدل ولا يتغير . وقد تقدمت الإشارة إلى هذا . والله أعلم . بالفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله
وقد تفطن لهذا ابن عطية وغيره ، ولكن هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم . وكذلك حكى القولين الشيخ أبو منصور الماتريدي في شرح التأويلات ورجح القول الثاني ، وتكلم عليه ومال إليه .