ولا تكن جاهلا في الحق مرتابا إن المنية مورود مناهلها اكدح لنفسك قبل الموت في مهل
لا بد منها ولو عمرت أحقابا وفي الليالي وفي الأيام تجربة
يزداد فيها أولو الألباب ألبابا بعد الشباب يصير الصلب منحنيا
والشعر بعد سواد كان قد شابا يفني النفوس ولا يبقي على أحد
ليل سريع وشمس كرها دابا لمستقر وميقات مقدرة
حتى يعود شهود الناس غيابا ومن تعاقره الأيام تبد له
بالجار جارا وبالأصحاب أصحابا خلوا بروجا وأوطانا مشيدة
ومؤنسين وأصهارا وأنسابا فيا له سفرا بعدا ومغتربا
كسيت منه لطول النأي أثوابا بموحش ضيق ناء محلته
وليس من حله من غيبة آبا كم من مهيب عظيم الملك متخذ
دون السرادق حراسا وحجابا أضحى ذليلا صغير الشأن منفردا
وما يرى عنده في القبر بوابا وقبلك الناس قد عاشوا وقد هلكوا
فأضرب الحي عن ذي النأي إضرابا [ ص: 490 ] يا أيها الرجل الناسي لمصرعه
أصبحت مما ستلقى النفس هرابا اكدح لنفسك من دار تزايلها
ولا تكن للذي يؤذيك طلابا
أرأيت من داء الصبابة عائدا ووجدت في شكوى الغرام مساعدا
هيهات ما ترد المطالب نائما عنها ولا تصل الكواكب قاعدا
إخواني : راعوا حق هذه الأيام مهما أمكنكم ، واشكروا الذي وهب لكم السلام ومكنكم ، فكم مؤمل لم يبلغ ما أمل ، وإن شككت فتلمح جيرانك وتأمل ، كم من أناس صلوا معكم في أول الشهر التراويح ، وأوقدوا في المساجد طلبا للأجر المصابيح ، اقتضهم قبل تمامه الصائد فقهروا ، وأسرتهم المصايد فأسروا ، وغمسهم التلف في بحره فمقلوا ، ولم ينفعهم المال والآمال لما نقلوا ، أدارت عليهم المنون رحاها ، وحك وجوههم الثرى فمحاها ، فأعدمتهم صوما وفطرا ، وزودتهم من الحنوط عطرا ، وأصبح كل منهم في اللحد سطرا ، هذا حالك يا من لا يعقل أمرا ، كم تحرض وما ينفع التحريض ، ونعرض لك باللوم وما يجدي التعريض ، يا من لا ينتبه بالتصريح ولا بالتعريض ، يا متعوضا ما يفنى عما يبقى بئس التعويض ، يا مسودا صحائفه متى يكون التبييض ، قد أمهلناك في الزمان الطويل العريض ، كم يقال لك ولا تقبل ، والحر تكفيه الملامة ، أمارة الخير ما تخفى ، طرف الفتى يخبر عن ضميره ، تالله إن رائضك لمثقف يضع الهناء مواضع النقب ، لو ارعويت لاستويت ، لو صح منك الهوى أرشدت للحيل ، زاحم التائبين وادخل في حزب البكائين ، وكل غريب للغريب نسيب .
قال : يا ابن يحيى بن معاذ آدم طلبت الدنيا طلب من لا بد له منها ، وطلبت الآخرة [ ص: 491 ] طلب من لا حاجة له إليها ، آدم ، حفت الجنة بالمكاره وأنت تكرهها ، وحفت النار بالشهوات وأنت تطلبها ، فما أنت إلا كالمريض الشديد الداء ، إن صبرت نفسه على مضض الدواء اكتسبت بالصبر عافية الشفاء ، وإن جزعت نفسه مما يلقى طالت به علته : والدنيا قد كفيتها وإن لم تطلبها ، والآخرة بالطلب منك تنالها ، فاعقل شأنك يا ابن
وفي الشيب ما ينهى الحكيم عن الصبا إذا استوقدت نيرانه في عذاره
وأي امرئ يرجو من العيش غبطة إذا اصفر منه العود بعد اخضراره
ولله في عرض السماوات جنة ولكنها محفوفة بالمكاره
كم صبر بشر عن مشتهى حتى سمع : كل يا من لم يأكل .
ما مد سجاف : نعم العبد على قبة ووهبنا له أهله حتى جرب في أمانة إنا وجدناه صابرا .
إن الألم ليحمد إذا كان طريقا إلى الصحة ، وإن الصحة لتذم إذا كانت سبيلا إلى المرض ، أي فائدة في لذة ساعة أوقعت غما طويلا ، ما فهم مواعظ الزمان من أحسن الظن بالأيام ، إياك أن تسمع كلام الأمل فإنه غرور محض :
أما ترى الدهر لا يبقى على حال طورا بأمن وطورا جا بأوجال
متى بان الفتى قالوا دنا أجل يا هل أرى في الليالي غير آجال
بذل يؤول إلى منع وعافية تجر داء ونكس بعد إبلال
وما سررت بأيام الكمال فما تناقص الشيء إلا عند إقبال
نلقي المخاوف في الدنيا ونأمنها ونطلب العز في الدنيا بإذلال
وتستذم إلينا كل شارقة وما لها مبغض فينا ولا قالي
لذاذة لم تنل إلا بمؤلمة وصحة لم تدم إلا بإعلال
هل العمر إلا ثلاثة أيام : يوم انقضى بما فيه ذهبت لذته وبقيت تبعته ، ويوم منتظر ليس منه إلا الأمل ، ويوم أنت فيه قد صاح بك مؤذنا بالرحيل فاصبر فيه عن الهوى فإن الصبر إذا وصل إلى المحبوب سهل .