112 - فأما الصفات المكتسبة المرعية في الإمامة : ، وسنلحق بهما بعد تحقيق القول فيهما صفة ثالثة . فالعلم ، والورع
113 - فأما العلم ، فالشرط أن يكون الإمام مجتهدا بالغا مبلغ المجتهدين ، مستجمعا صفات المفتين ، ولم يؤثر في اشتراط ذلك خلاف . والدليل عليه أن أمور معظم الدين تتعلق بالأئمة . فأما ما يختص بالولاة وذوي الأمر ، فلا شك في ارتباطه بالإمام ، وأما ما عداه من أحكام الشرع ، فقد يتعلق به من جهة انتدابه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلو لم يكن الإمام مستقلا بعلم الشريعة ، لاحتاج إلى مراجعة العلماء في تفاصيل الوقائع وذلك يشتت رأيه ، ويخرجه عن رتبة الاستقلال .
[ ص: 85 ] ولو قيل : إنه يراجع المفتي مراجعة آحاد الناس المفتين ، لكان ذلك محالا ; فإن الوقائع التي ترفع إلى الإمام في الخطوب الجسام ، والأمور العظام لا تتناهى كثرة ; إذ هو شرف العالمين ، ومطمح أعين المسلمين ، وقد لا يجد عند رفع واقعة إليه أعلم علماء القطر والناحية ، فيتردد ، ويتبلد ، ويبطل أثره في منصب الاستقلال ، ولو جاز ذلك لساغ أن لا يكون الإمام ذا كفاية واستقلال بنفسه . ثم يراجع الكفاة ، ويستشير ذوي الأحلام والدهاة .
وهذا لا قائل به ، فإذا كانت الإمامة زعامة الدين والدنيا ، ووجب استقلاله بنفسه في تدبير الأمور الدنيوية ، فكذلك يجب استقلاله بنفسه في الأمور الدينية ، فإن أمور الدنيا على مراسم الشريعة تجري فهي المتبع والإمام في جميع مجاري الأحكام ، والرأي يجب أن يكون على مقتضى الشرع ; فإن الذي لا يقتضيه الشرع لا معول عليه .
[ ص: 86 ] فالكفاية المرعية معناها الاستقلال بتأدية الأصوب شرعا في الأمور المنوطة بالإمام .
114 - فإن قيل كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا وقعت واقعة ، وألمت به ملمة ، اشتوروا ، ولم يأنفوا من المراجعة والمرادة ، فأشعر ذلك من عادتهم بأن استقلال الإمام ليس شرطا في الإمامة .
قلنا : الحبر المشار إليه ، والإمام المتفق عليه ، ومن هو البحر الذي لا ينزف لا يبعد منه أن يستشير في آحاد الوقائع ، ويستمد من نتائج القرائح ، ويبحث في محادثة أطراف الكلام عن مآخذ الأحكام ، كيف وقد ندب الله رسوله - عليه السلام - إلى الاستشارة فقال : " وشاورهم في الأمر " ولا منافاة بين بلوغ المرتبة العليا في العلوم ، وبين التناظر والتشاور في المعضلات .
115 - ونحن نرى للإمام المستجمع خلال الكمال ، البالغ مبلغ الاستقلال أن لا يغفل الاستضاءة في الإيالة وأحكام [ ص: 87 ] الشرع بعقول الرجال ، فإن صاحب الاستبداد لا يأمن الحيد عن سنن السداد ، ومن وفق للاستمداد من علوم العلماء ، كان حريا بالاستداد ، ولزوم طريق الاقتصاد .
116 - وسر الإمامة استتباع الآراء ، وجمعها على رأي صائب ، ومن ضرورة ذلك استقلال الإمام ، ثم هو محثوث على استفادة مزايا القرائح ، وتلقي الفوائد والزوائد منها ; فإن في كل عقل ميزة ، ولكن اختلاف الآراء مفسدة لإمضاء الأمور ، فإذا بحث عن الآراء إمام مجتهد ، وعرضها على علمه الغزير ، ونقدها بالسبر والفكر الأصوب من وجوه الرأي ، كان جالبا إلى المسلمين ثمرات العقول ، ودافعا عنهم غائلة التباين والاختلاف ، فكأن المسلمين يتحدون بنظر الإمام ، وحسن تدبيره ، وفحصه وتنقيره ، ولا بد على كل حال من كون الإمام متبوعا [ ص: 88 ] غير تابع ، ولو لم يكن مجتهدا في دين الله ، للزمه تقليد العلماء واتباعهم ، وارتقاب أمرهم ، ونهيهم ، وإثباتهم ، ونفيهم وهذا يناقض منصب الإمامة ، ومرتبة الزعامة .
فهذا قولنا في العلم .
117 - فأما ، فلا بد منهما ; إذ لا يوثق بفاسق في الشهادة على فلس ، فكيف يولى أمور المسلمين كافة ، والأب الفاسق مع فرط حدبه وإشفاقه على ولده لا يعتمد في مال ولده ، فكيف يؤتمن في الإمامة العظمى فاسق لا يتقي الله ؟ ومن لم يقاوم عقله هواه ونفسه الأمارة بالسوء ، ولم ينتهض رأيه بسياسة نفسه فأنى يصلح لسياسة خطة الإسلام . التقوى والورع
[ ص: 89 ] 119 - فأما الصفة الثالثة التي ضمنا ضمها إلى الفضائل المكتسبة ، فهي ضم توقد الرأي في عظائم الأمور ، والنظر في مغبات العواقب ، وهذه الصفة ينتجها نحيزة العقل ، ويهذبها التدريب في طرق التجارب .
119 - جمع شتات الرأي ، واستتباع رجل أصناف الخلق على تفاوت إرادتهم ، واختلاف أخلاقهم ومآربهم وحالاتهم ، فإن معظم الخبال والاختلال يتطرق إلى الأحوال من اضطراب الآراء ، فإذا لم يكن الناس مجموعين على رأي واحد ، لم ينتظم تدبير ، ولم يستتب من إيالة الملك قليل ولا كثير ، ولاصطلمت الحوزة ، واستؤصلت البيضة ، وليعتبر العاقل ذلك بملك مطاع بين أتباع ، محفوف بجنود ، وخفق بنود وأشياع ، إذا اختطف الملك بغتة ، وفاجأته المنية فلتة . فلينظر كيف تنفض الجموع ، ويصيرون عبرة أسماع وأبصار ، فلو لم يكن في خطة الإسلام [ ص: 90 ] متبوع يأوي إليه المختلفون ، وينزل على حكمه المتنازعون ، ويذعن لأمره المتدافعون ، إذا أعضلت الحكومات ، ونشبت الخصومات ، وتبددت الإرادات ، لارتبك الناس في أفظع الأمر ، ولظهر الفساد في البر والبحر . والغرض الأعظم من الإمامة
120 - وإذا تبين الغرض من نصب الإمام ، لاح أن المقصود لا يحصل إلا بذي كفاية ودراية ، وهداية إلى الأمور واستقلال بالمهمات ، وجر الجيوش ، لا يزعه خور الطبيعة عن ضرب الرقاب أوان الاستحقاق ، ولا تحمله الفظاظة على ترك الرقة والإشفاق . ثم لا يكفي أن يسمى كافيا ، فرب مستقل بأمر قريب لا يستقل بأمر فوقه ، فلتعتبر مقاصد الإمامة ، وليشترط استقلال الإمام بها . فهذا معنى النجدة والكفاية .
121 - فتنحل من مجموع هذه الأوصاف أن الصالح للإمامة هو الرجل الحر ، القرشي ، المجتهد ، الورع ، ذو النجدة والكفاية .
[ ص: 91 ] 122 - ويمكن رد هذه الصفات إلى شيئين ; فيقال : المرعي الاستقلال والنسب ، ويدخل تحت الاستقلال الكفاية ، والعلم ، والورع ، والحرية ، والذكورة تدخل أيضا ، فإن المرأة مأمورة بأن تلزم خدرها ، ومعظم أحكام الإمامة تستدعي الظهور والبروز ، فلا تستقل المرأة إذا .
فهذا منتهى ما أردنا في ذلك .