رسالة عبد العزيز بن عبد الله الماجشون في الرؤية
59 - حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد القافلائي قال : ثنا قال : ثنا محمد بن إسحاق الصاغاني ، قال : أخبرني عبد الله بن صالح ، عبد العزيز بن عبد الله بن سلمة الماجشون ، أملاها علي إملاء ، وسألته فيما جحدت الجهمية [ ص: 64 ] .
أما بعد : فقد فهمت ما سألت فيما تتابعت الجهمية ومن حالفها في صفة الرب العظيم الذي فاتت عظمته الوصف ، والتقدير ، وكلت الألسن عن تفسير صفته ، وانحسرت العقول دون معرفة قدره ، ودعت عظمته العقول ، فلم تجد مساغا فرجعت خاسئة وهي حسير ، وإنما أمرنا بالنظر والتفكر فيما خلق بالتقدير ، وإنما يقال : كيف كان ؟ ، لمن لم يكن مرة ثم كان ، فأما الذي لا يحول ، ولا يزول ، ولم يزل ، وليس له مثل ، فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو ، وكيف يعرف قدر من لم يبدأ ومن لا يبلى ، ولا يموت ؟ وكيف يكون لصفة شيء منه حد ، أو منتهى ، يعرفه عارف ، أو يحد قدره واصف ؟ ، وذلك من جلاله ، فصل على أنه الحق المبين ، لا حق أحق منه ، ولا شيء أبين منه . الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه لا تكاد تراه صغرا يجول ويزول ، ولا يرى له سمع ولا بصر لما يتقلب به ويحتال من عقله ، أعضل بك وأخفى عليك مما ظهر من سمعه وبصره ، فتبارك الله أحسن الخالقين [ ص: 65 ] .
وخالقهم وسيد السادة وربهم ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .
اعرف رحمك الله غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفته قدر ما وصف منها ، إذا لم تعرف قدر ما وصف فما كلفك علم ما لم يصف ، هل تستدل بذلك على شيء من طاعته أو تتزحزح عن شيء من معصيته ؟ فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا قد استهوته الشياطين في الأرض حيران ، فصار أحدها ، ومنها يستدل من زعم على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال : لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا ، فعمي عن البين بالخفي ، بجحد ما سمى الرب من نفسه ، فصمت الرب عما لم يسم منها ، فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة .
فقال : في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، وقد قضى أنهم لا يموتون ، فهم بالنظر إليه ينضرون [ ص: 66 ] . لا يراه أحد يوم القيامة ، فجحد والله أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه ، ونضرته إياهم
وإنما كان يهلك من رآه حيث لم يكن يبقى سواه ، فلما حتم البقاء ، ونفى الموت والفناء ، أكرم أولياءه بالنظر إليه واللقاء ، فورب السماء والأرض ليجعلن الله رؤيته يوم القيامة للمخلصين ثوابا فتنضر بها وجوههم دون المجرمين ، وتفلج بها حجتهم على الجاحدين ، فهم وشيعته وهم عن ربهم يومئذ محجوبون ، لا يرونه كما زعموا أنه لا يرى ، ولا يكلمهم ، ولا ينظر إليهم ، ولهم عذاب أليم ، كيف لم يعتبر قائله بقول الله تعالى : إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ؟ أيظن أن الله يقصيهم ويعذبهم بأمر يزعم الفاسق أنه وأولياؤه فيه سواء ؟ وإنما جحد رؤيته يوم القيامة ؛ إقامة للحجة الضالة المضلة ؛ لأنه قد عرف إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين ، وكان له جاحدا .
وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل تضارون في رؤية الشمس دونها سحاب ؟ " قالوا : لا ، قال : " فهل [ ص: 67 ] تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ؟ " فقالوا : لا ، قال : " فإنكم ترون ربكم يومئذ كذلك " وقال المسلمون : يا رسول الله : هل نرى ربنا ؟ وذلك قبل أن ينزل الله عز وجل : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تمتلئ النار حتى يضع الرحمن قدمه فيها فتقول : قط قط ، فينزوي بعضها إلى بعض " ، وقال لثابت بن قيس : " لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة " وقال فيما بلغنا : " إن الله ليضحك من أزلكم ، وقنوطكم ، وسرعة إجابتكم " ، وقال له رجل من العرب : إن ربنا ليضحك ؟ قال " نعم " قال : لا يعدمنا من رب يضحك خيرا " في أشباه لهذا مما لم نحصه ، وقال تعالى : وهو السميع البصير ، [ ص: 68 ] .
واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا .
وقال تعالى : ولتصنع على عيني .
وقال : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي .
وقال : والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون .
فوالله ما دلهم على عظيم من وصف نفسه ، وما تحيط قبضته إلا صغر نظيرها منهم عندهم أن ذلك الذي ألقى في روعهم ، وخلق على معرفة قلوبهم ، فما وصف الله من نفسه فسماه على لسان نبيه سميناه كما سماه ، ولم نتكلف منه صفة ما سواه لا هذا ولا هذا ، لا نجحد ما وصف ، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف .