الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          [ ص: 264 ] المسلك الرابع : في إثبات العلة بالسبر والتقسيم

          [1] وذلك أن يقال : الحكم الثابت في الأصل إما أن يكون لعلة أو لا لعلة .

          لا جائز أن يقال بالثاني ; إذ هو خلاف إجماع الفقهاء على أن الحكم لا يخلو عن علة إما بجهة الوجوب كما قالت المعتزلة ، أو لا بجهة الوجوب كقول أصحابنا [2] ، وبتقدير جواز خلوه عن العلة ، فالخلو عنها على خلاف الغالب المألوف من شرع الأحكام ، وذلك يدل ظاهرا على استلزام الحكم فيما نحن فيه للعلة .

          وإذا كان لا بد له من علة فإما بأن تكون ظاهرة أو غير ظاهرة .

          لا جائز أن تكون غير ظاهرة ، وإلا كان الحكم تعبدا ، وهو خلاف الأصل لوجوه ثلاثة :

          الأول : أن إثبات الحكم بجهة التعقل أغلب من إثباته بجهة التعبد ، وإدراج ما نحن فيه تحت الغالب أغلب على الظن .

          الثاني : أنه إذا كان الحكم معقول المعنى كان على وفق المألوف من تصرفات العقلاء وأهل العرف ، والأصل تنزيل التصرفات الشرعية على وزان التصرفات العرفية .

          [ ص: 265 ] الثالث : أنه إذا كان معقول المعنى وكان أقرب إلى الانقياد وأسرع في القبول ، فكان أفضى إلى تحصيل مقصود الشارع من شرع الحكم فكان أولى .

          وإذا كان لا بد من علة ظاهرة ، فإذا قال المناظر : الموجود في محل الحكم لا يخرج عن وصفين أو ثلاثة مثلا ; لأني بحثت وسبرت فلم أطلع على ما سواه ، وكان أهلا للنظر بأن كانت مدارك المعرفة بذلك لديه متحققة من الحس والعقل وكان عدلا ثقة فيما يقول والغالب من حاله الصدق ، غلب على الظن انتفاء ما سوى المذكور من الأوصاف ، أو قال [3] : الأصل عدم كل موجود سوى ما وجد من الأوصاف المذكورة ، إلا أن يدل الدليل عليه ، والأصل عدم ذلك الدليل فإنه يغلب على الظن الحصر فيما عينه .

          وإذا ثبت حصر الأوصاف فيما عينه فإذا بين بعد ذلك حذف البعض عن درجة الاعتبار في التعليل بدليل صالح مساعد له عليه ، بحيث يغلب على الظن ذلك ، فيلزم من مجموع الأمرين [4] انحصار التعليل فيما استبقاه ضرورة امتناع خلو محل الحكم عن علة ظاهرة ، وامتناع وجود ما وراء الأوصاف المذكورة وامتناع إدراج المحذوف في التعليل لما دل عليه الدليل .

          فإن قيل : لعله لم يبحث ولم يسبر ، وإن بحث وسبر ، فلعله وجد وصفا وراء ما ادعى الحصر فيه ، ولم يذكره ترويجا لكلامه ، وإن لم يجد شيئا وراء المذكور فلا يدل ذلك على عدمه ، فإن عدم العلم بالوصف جهل به ، والجهل بوجود الوصف لا يدل على عدمه ، وإن دل على عدمه بالنسبة إلى الباحث فلا يدل على عدمه بالنسبة إلى الخصم ، فإنه ربما كان عالما بوجود وصف آخر وراء المذكور ، وعند ذلك فلا ينتهض بحث المستدل دليلا في نظر خصمه على العدم لعلمه بمناقضته ، ثم وإن دل ذلك على حصر الأوصاف فيما ذكره فحذف بعض الأوصاف عن درجة الاعتبار في التعليل إنما يلزم منه انحصار التعليل في المستبقي أن لو كان الحكم في [ ص: 266 ] التعليل معقول المعنى ، وأما على تقدير كونه غير معقول المعنى فلا ; لأنه جاز أن يشترك المحذوف والمستبقي في انتفاء الاعتبار ، وإن كان الحكم معقول المعنى فغاية ما في حذف الوصف المحذوف إبطال معارض العلة ، ولا يلزم من ذلك صحة كون المستبقي علة ; لأن صحة العلة إنما إلى وجود مصححها لا بالنظر إلى انتفاء معارضها .

          [5] قلنا : إذا كان الباحث مسلما عدلا فالظاهر أنه صادق فيما أخبر به من البحث وعدم الاطلاع على وصف آخر ، وعند ذلك فالقضاء بنفي الوصف لا يكون مستندا إلى عدم العلم به ، بل بناء على الظن بعدمه ، فإن الظن بعدم الشيء ملازم للبحث عن ذلك الشيء ممن هو أهله مع عدم الاطلاع عليه ، وعند ذلك فالظاهر أنه لو كان الخصم يعلم وجود وصف آخر لأبرزه وأظهره ; إفحاما لخصمه وإظهارا لعلم مست الحاجة إلى إظهاره ، فدعوى العلم منه بوجود وصف آخر من غير بيان مع إمكان البيان لا يكون مقبولا لظهور العناد فيه ، ولو بين الخصم وجود وصف آخر ، فإنا وإن تبينا انخرام حصر المستدل به ، غير أنه إذا أدرجه في الإبطال مع ما أبطل فإنه لا يعد منقطعا فيما يقصده من التعليل بالوصف المستبقي ، وإذا ثبت انحصار الأوصاف في القدر المذكور فلا يخفى أنه إذا أخرج البعض عن درجة الاعتبار تعين انحصار التعليل في المستبقي ، فإنه وإن جاز أن يكون الحكم تعبدا غير أنه بعيد لما سبق تقريره ، وليس القضاء بكون المستبقي علة بناء على إبطال المعارض ، بل على أن الحكم في محل التعليل لا بد له من علة ظاهرا ، وعند ذلك يغلب على الظن انحصارها في الأوصاف المذكورة ، فإذا قام الدليل على إبطال البعض غلب على الظن التعليل بالمستبقي ، ويكون ذلك الظن مستفادا من جملة القواعد الممهدة لا من نفس إبطال المعارض .

          هذا كله في حق المناظر .

          [6] [ ص: 267 ] وأما الناظر المجتهد فإنه مهما غلب على ظنه شيء من ذلك فلا يكابر نفسه ، وكان مؤاخذا بما أوجبه ظنه .

          وعند ذلك فلا بد من بيان طرق الحذف :

          الأول منها : أن يبين المستدل أن الوصف الذي استبقاه قد ثبت به الحكم في صورة بدون الوصف المحذوف ، وهو ملقب بالإلغاء وهو شديد الشبه بنفي العكس الذي ليس بمقبول ، وسيأتي الفرق بينهما ، ولا بد من بيان ثبوت الحكم مع الوصف المستبقي فإنه لو ثبت دونه كما ثبت دون المحذوف [7] كان ذلك إلغاء للمستبقي أيضا ، وعند ذلك [8] فيتبين استقلال المستبقي بالتعليل ، ومع ظهور ذلك فيمتنع إدخال الوصف المحذوف في التعليل في محل التعليل ; لأنه يلزم منه إلغاء وصف المستدل في الفرع مع استقلاله ضرورة تخلف ما لم يثبت كونه مستقلا وهو ممتنع .

          ويمتنع أيضا إضافة الحكم في محل التعليل إلى الوصف المحذوف لا غير ، لما فيه من إثبات الحكم بما لم يثبت استقلاله وإلغاء ما ثبت استقلاله وهو ممتنع .

          لكن لقائل أن يقول : دعوى استقلال الوصف المستبقي في صورة الإلغاء بالتعليل من مجرد إثبات الحكم مع وجوده وانتفاء الوصف المحذوف ، غير صحيحة ، فإنه لو كان مجرد ثبوت الحكم مع الوصف في صورة الإلغاء كافيا في التعليل بدون ضميمة ما يدل على استقلاله بطريق من طرق إثبات العلة لكان ذلك كافيا في أصل القياس ، ولم يكن إلى البحث والسبر حاجة ، وكذا غيره من الطرق ، فإذا لا بد من بيان الاستقلال بالاستدلال ببعض طرق إثبات العلة ، وعند ذلك إن شرع المستدل في بيان الاستقلال ببعض طرق إثبات العلة ، فإن بين الاستقلال في صورة الإلغاء [ ص: 268 ] بالبحث والسبر ، كما أثبت ذلك في الأصل الأول ، فقد استقلت صورة الإلغاء بالاعتبار ، وأمكن أن تكون أصلا لعلته ، وتبينا أن الأصل الأول لا حاجة إليه ، فإن المصير إلى أصل لا يمكن التمسك به في الاعتبار إلا بذكر صورة أخرى مستقلة بالاعتبار يكون تطويلا بلا فائدة .

          وإن بين الاستقلال بطريق آخر فيلزمه مع هذا المحذور محذور آخر وهو الانتقال في إثبات كون الوصف علة من طريق إلى طريق آخر ، وهو شنيع في مقام النظر .

          الطريق الثاني : أن يكون ما يحذفه من جنس ما ألفنا من الشارع عدم الالتفات إليه في إثبات الأحكام كالطول والقصر والسواد والبياض ونحوه .

          الطريق الثالث : أن يكون ما يحذفه من جنس ما ألفنا من الشارع إلغاءه في جنس ذلك الحكم المعلل ، فيجب إلغاؤه وإن كان مناسبا ، وذلك كما في قوله - عليه السلام - : ( من أعتق شركا له من عبد قوم عليه نصيب شريكه ) [9] فإنه وإن أمكن تقرير مناسبة بين صفة الذكورة وسراية العتق غير أنا لما عهدنا من الشارع التسوية بين الذكر والأنثى في أحكام العتق ألغينا صفة الذكورة في السراية بخلاف ما عداه من الأحكام .

          الطريق الرابع : إذا قال : بحثت في الوصف المحذوف فلم أجد فيه مناسبة ، ولا ما يوهم المناسبة ، وكان أهلا للنظر والبحث عدلا ، فالظاهر صدقه وأن الوصف غير مناسب ، ويلزم من ذلك حذفه ضرورة كون العلة في الأصل بمعنى الباعث على ما تقرر قبل ، وامتناع اعتبار ما لا يكون مناسبا .

          [ ص: 269 ] فإن قيل : البحث والسبر وإن دل على عدم المناسبة في الوصف المحذوف فللمعترض أن يقول : بحثت في الوصف المستبقي فلم أجد فيه مناسبة .

          وعند ذلك ، فإن بين المستدل المناسبة فيه فقد انتقل في إثبات العلة من طريق السبر إلى المناسبة . وإن لم يبين ذلك لم يكن وصف المعترض بالحذف أولى من وصف المستدل .

          قلنا : إن كان قد سبق من المعترض تسليم مناسبة كل واحد من الوصفين ، فلا يسمع منه بعد بيان المستدل نفي المناسبة في الوصف المحذوف ، منع المناسبة في المستبقي ، لكونه مانعا لما سلمه ، ولا يجب على المستدل بيان المناسبة في الوصف المستبقي ، وإن لم يسبق من المعترض تسليم ذلك ، فللمستدل طريق صالح في دفع السؤال من غير حاجة إلى بيان المناسبة في الوصف المستبقي ، وهو ترجيح سبره على سبر المعترض بموافقته للتعدية ، وموافقة سبر المعترض للقصور ، والتعدية أولى من القصور على ما يأتي تقريره في الترجيحات .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية