الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          [ ص: 236 ] المسألة الثانية عشرة

          [1] اتفقوا على جواز تعليل الحكم بعلل في كل صورة بعلة ، واختلفوا في جواز تعليل الحكم الواحد [2] في صورة واحدة بعلتين معا .

          فمنهم من منع ذلك مطلقا كالقاضي أبي بكر وإمام الحرمين ومن تابعهما ، ومنهم من جوز ذلك مطلقا ، ومنهم من فصل بين العلل المنصوصة والمستنبطة ، فجوزه في المنصوصة ومنع منه في المستنبطة كالغزالي ومن تابعه .

          والمختار إنما هو المذهب الأول ، وذلك لأنه لو كان معللا بعلتين لم يخل إما أن تستقل كل واحدة بالتعليل ، أو أن المستقل بالتعليل إحداهما دون الأخرى ، أو أنه لا استقلال لواحدة منهما بل التعليل لا يتم إلا باجتماعهما .

          لا جائز أن يقال بالأول ; لأن معنى كون الوصف مستقلا بالتعليل أنه علة الحكم دون غيره ، ويلزم من استقلال كل واحدة منهما بهذا التفسير امتناع استقلال كل واحدة منهما وهو محال .

          وإن كان الثاني أو الثالث فالعلة ليست إلا واحدة ، وعلى هذا فلا فرق بين أن تكون العلة في التعليل بمعنى الباعث أو بمعنى الأمارة .

          فإن قيل : نحن لا نفسر استقلال العلة بأن الحكم ثبت بها لا غير ليلزمنا ما قيل ، بل معنى استقلالها أنها لو انفردت لكان الحكم لها ولا أثر لانتفاء غيرها .

          ولا يخفى وجه الفرق بينه وبين القسمين الآخرين .

          سلمنا دلالة ما ذكرتموه على امتناع تعليل الحكم بعلتين على وجه تكون كل واحدة مستقلة بالحكم ، لكنه معارض بما يدل على جوازه بالنظر إلى ما هو الواقع من أحكام الشرع .

          وذلك أنا قد اتفقنا على ثبوت الحكم الواحد عقيب علل مختلفة ، كل واحدة قد ثبت استقلالها بالتعليل في صورة .

          [ ص: 237 ] وعند ذلك فإما أن يقال : العلة منها واحدة أو الكل ( علة ) واحدة ذات أوصاف ، أو أن كل واحدة علة مستقلة .

          لا جائز أن يقال بالأول وإلا فهي معينة أو مبهمة : القول بالتعيين ممتنع لعدم الأولوية ، ولما فيه من خروج الباقي عن التعليل مع استقلال كل واحدة به ، وبهذا يبطل الإبهام .

          والقسم الثاني : أيضا ، فلم يبق سوى القسم الثالث وهو الاستقلال .

          ودليل ثبوت مثل هذه الأحكام : الإجماع على إباحة قتل من قتل مسلما قتلا عمدا عدوانا ، وارتد عن الإسلام ، وزنا محصنا وقطع الطريق معا ، وعلى ثبوت الولاية على الصغير المجنون ، وعلى امتناع نكاح من أولدته وأرضعته ، وعلى تحريم وطء الحائض المعتدة المحرمة ، وعلى انتقاض الوضوء بالمس واللمس والبول والغائط معا .

          والجواب عن الإشكال الأول : أن الكلام إنما هو مفروض في حالة الاجتماع لا في حالة الانفراد ، والتقسيم في حالة الاجتماع ، فعلى ما سبق .

          وأما الأحكام فالوجه في دفعها أن تقول : أما إباحة قتل من قتل وارتد وزنى محصنا وقطع الطريق ، فالعلل وإن كانت فيه متعددة فالحكم أيضا متعدد شخصا وإن اتحد نوعا ، ولذلك فإنه لا يلزم من انتفاء إباحة القتل بعد العودة عن الردة إلى الإسلام انتفاؤها بباقي الأسباب الأخر ، ولا من انتفاء الإباحة بسبب إسقاط القصاص انتفاؤها بباقي الأسباب .

          ويدل على تعدد الحكم أيضا أن الإباحة بجهة القتل العمد العدوان حق للآدمي بجهة الخلوص ، ولذلك يتمكن من إسقاطه مطلقا ، والإباحة بجهة الزنا والردة حق لله تعالى بجهة الخلوص دون الآدمي ، وذلك غير متصور في شيء واحد ، وعلى تقدير الاستيفاء فالمقدم حق الآدمي وهو الإباحة بجهة القصاص ; لأن حقه مبني على الشح والمضايقة ، وحق الله تعالى مبني على المسامحة والمساهلة من حيث إن الآدمي يتضرر بفوات حقه دون الباري تعالى .

          وأما ثبوت الولاية على الصغير المجنون فمستندة إلى الصغر لسبقه على الجنون لكون الجنون لا يعرف إلا بعد حين ، وكذلك امتناع نكاح الوالدة المرضعة فإنه مستند إلى الولادة دون الرضاع لسبقها عليه .

          [ ص: 238 ] وأما الوطء في حق الحائض المعتدة المحرمة فغير محرم على التحقيق ، وإنما المحرم في حق الحائض ملابسة الأذى ، وفي حق المعتدة تطويل العدة ، وفي حق المحرمة إفساد العبادة ، وهي أحكام متعددة لا أنها حكم واحد .

          وأما المس واللمس وباقي الأسباب فالأحداث المرتبة عليها متعددة على رأي لنا .

          وعلى هذا فلو نوى رفع حدث واحد منها لارتفع الباقي ، فأحكامها أيضا متعددة لا أنها حكم واحد ، والنزاع إنما هو في الحكم الواحد بالشخص بعلتين لا في تعليل حكمين .

          وعلى هذا فلا يخفى وجه التخريج لكل ما يرد من هذا القبيل .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية