الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          [ ص: 206 ] المسألة الرابعة

          اختلفوا في جواز تعليل الحكم الثبوتي بالعدم ، فجوزه قوم ومنع منه آخرون ، وشرطوا أن تكون العلة للحكم الثبوتي أمرا وجوديا وهو المختار .

          وبيانه من ثلاثة أوجه :

          الأول : أن الحكم بكون الوصف علة - صفة وجودية ; لأن نقيض العلة ( لا علة ) ، و ( لا علة ) أمكن أن يكون صفة لبعض الأعدام ، ولو كان المفهوم من ( لا علة ) وجوديا لكان الوجود صفة للعدم ، وهو محال ، وإذا كان ( لا علة ) عدما فالمفهوم من نقيضها وجودي .

          الوجه الثاني : أنه يصح قول القائل : " أي شيء وجد حتى حدث هذا الأمر ؟ " ولو لم يكن الحدوث متوقفا على وجود شيء لما صح هذا الكلام ، كما لو قال : أي رجل مات حتى حدث لفلان هذا المال ؟ حيث لم يكن حدوث المال لفلان متوقفا على ما قيل .

          الثالث : وهو خاص بما إذا كان الحكم بخطاب التكليف كالوجوب والحظر ونحوه ، وهو أن يقال : " قد ثبت أن العلة المستنبطة من الحكم لا بد وأن تكون بمعنى الباعث لا بمعنى الأمارة ، والباعث ما اشتمل على تحصيل مصلحة أو تكميلها أو دفع مفسدة أو تعليلها كما يأتي بيانه ، فإذا كان الحكم ثابتا بخطاب التكليف لمثل هذا الغرض ، فلا بد وأن يكون ضابط ذلك الغرض مقدورا للمكلف في إيجاده وإعدامه ، وإلا لما كان شرع ذلك الحكم مفيدا لمثل ذلك الغرض ، لعدم إفضائه إلى الغرض المطلوب ، والعدم المحض لا انتساب له إلى قدرة المكلف لا بإيجاد ولا إعدام ، فجعل ضابطا لغرض الحكم ومقصوده لا يكون مفضيا إلى مقصود شرع الحكم فيمتنع التعليل به .

          فإن قيل : ما ذكرتموه من الوجه الأول معارض بما يدل على أن المفهوم من صفة العلة عدم ، وبيانه من وجهين :

          [ ص: 207 ] الأول : أنه لو كانت صفة العلة أمرا وجوديا لم يخل : إما أن تكون واجبة لذاتها ، أو ممكنة ، الأول محال ، وإلا لما افتقرت إلى الموصوف بها .

          والثاني يوجب افتقارها إلى علة مرجحة لها ، في صفة تلك العلة كالكلام في الأولى وهو تسلسل ممتنع .

          الوجه الثاني : أنه يصح وصف الأمر العدمي بكونه علة للأمر العدمي ، ولهذا يصح أن يقال : إنما لم أسلم على فلان لأني لم أره ، وإنما لم أفعل كذا لعدم الداعي إليه .

          وأما الوجه الثاني : فليس فيه دلالة على توقف حدوث ذلك الأمر على تجدد وجود أمر آخر ، ولهذا فإنه يصح أن يقال : أي شيء صنع هذا حتى حدث له هذا المال ؟ وإن لم يكن حصول المال له موقوفا على صنع من جهته ; لجواز حدوثه له عن إرث أو وصية .

          وإن سلمنا دلالته على التوقف على الأمر الوجودي غير أنه معارض بما يدل على صحة الأمر الوجودي بالأمر العدمي .

          وبيانه أنه يصح أن يقال : ضرب فلان عبده لأنه لم يمتثل أمره ، وشتم فلان فلانا لأنه لم يسلم عليه ، وهو تعليل للأمر الوجودي بالأمر العدمي .

          وأما الوجه الثالث : فهو وإن سلمنا أن العلة لا بد وأن تكون بمعنى الباعث ، وأن الباعث عبارة عما ذكرتموه ولكن لا نسلم امتناع كون الوصف العدمي باعثا ، وذلك لأنا أجمعنا على جواز التعليل بالوصف الوجودي الظاهر المنضبط إذا كان يلزم من ترتيب الحكم على وفقه تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة ظاهرا ، فالعدم المقابل له يكون أيضا ظاهرا منضبطا ، ويكون مشتملا على نقيض ما اشتمل عليه الوصف الوجودي ، وهو لا يخرج عن المصلحة أو المفسدة ; لأنه إن كان ما اشتمل عليه الوصف الوجودي مصلحة فعدمه يلزمه عدم تلك المصلحة ، وعدم المصلحة مفسدة ، وإن كان ما اشتمل عليه الوصف الوجودي مفسدة ، فعدمه يلزمه عدم تلك المفسدة ، وعدم المفسدة مصلحة وهو مقدور للمكلف لأنه إذا كان مقابله وهو الوصف الوجودي مقدورا ، فلا معنى لكونه مقدورا إلا أنه مقدور على إيجاده وإعدامه ، فإذا العدم المقابل للوجود مقدور وإذا كان مقدورا وهو ظاهر [ ص: 208 ] منضبط مشتمل على مصلحة أو مفسدة ، فقد أمكن التعليل به كما أمكن التعليل بالوصف الوجودي .

          والجواب عن الأول : أن ما ذكروه من لزوم التسلسل بتقدير كون العلية صفة وجودية - لازم بتقدير كونها عدمية ، وذلك لأن المفهوم من صفة العلية إذا كان أمرا عدميا فإما أن يكون واجبا لنفسه ومفهومه أو ممكنا .

          لا جائز أن يكون واجبا لذاته وإلا لما افتقر في تحقيقه إلى نسبته إلى ذات العلة ، وكونه وصفا لها ، وإن كان ممكنا فلا بد له من علة مرجحة ، والتسلسل لازم له ، وعند ذلك فالجواب يكون متحدا .

          وما ذكروه من الاحتجاج ثانيا فلا يصح ، وذلك لأن وجود الداعي إلى الفعل شرط لوجود الفعل ، وكذلك الرؤية لزيد شرط في السلام عليه لا أن ذلك علة له ، وإنما أضيف عدم الأثر إليه بلام التعليل بجهة التجوز لمشابهته للعلة في افتقار الأثر إلى كل واحد منهما ، ولذلك يقال في صورة تعليق الطلاق والعتق بدخول الدار : ( إنما طلقت الزوجة وعتق العبد لدخول الدار ) ويجب حمل ذلك على جهة التجوز جمعا بينه وبين ما ذكرناه من الدليل .

          قولهم على الوجه الثاني : ليس فيه دلالة على توقف الحدوث على تجدد الوجود .

          قلنا : دليله ما ذكرناه وما ذكروه من الاستشهاد ، فإنما صح بناء على الظاهر من جهة أن الغالب في حدوث المال لبعض الأشخاص أن يكون مستندا إلى صنعة لا إلى ما ذكروه ، ونحن إنما نتمسك في هذا الوجه بالظاهر لا بالقطع .

          وما ذكروه من المعارضة الدالة على الأمر الوجودي بالأمر العدمي غير صحيح ، فإن المعلل به ليس هو العدم المحض ، فإنه غير منتسب إلى فعل الشخص فلا يحسن جعله علة للعقاب لا عقلا ولا شرعا ، وإنما التعليل بالامتناع عن ذلك وكف النفس عنه ، وهو أمر وجودي لا عدمي .

          وما ذكروه على الوجه الثالث فحاصله راجع إلى التعليل بالإعدام المقدور ، وهو أمر وجودي لا بالعدم المحض الذي لا قدرة للمكلف عليه ، وذلك غير ما وقع فيه النزاع .

          [ ص: 209 ] وإذا عرف امتناع الوجود بالعدم المحض مما ذكرناه فبمثله يعلم أن العدم لا يكون جزءا من العلة المقتضية للأمر الوجودي ولا داخلا فيها ، والوجه في الاعتراض على ذلك والانفصال فعلى ما تقدم .

          ويخصه اعتراض آخر ، وهو أن انتفاء معارضة المعجزة بمثلها جزء من المعرف لكونها معجزة ، وكذلك الدوران فإنه معرف لعلية المدار ، وأحد أجزاء الدوران العدم مع العدم .

          وجوابه : أنا لا نسلم أن العدم فيما ذكروه من صور الاستشهاد جزء من المعرف بل شرط ، والشرط غير الجزء .

          وإذا عرف امتناع الحكم الثبوتي بالعدم المحض وامتناع جعله جزءا من العلة لزم امتناع التعليل بالصفات الإضافية [1] ، وذلك لأن المفهوم من الصفة الإضافية إما أن يكون وجودا أو عدما ، لا جائز أن يكون وجودا ; لأن الصفة الإضافية لا بد وأن تكون صفة للمضاف ، ويلزم من ذلك قيام الصفة الوجودية بالمعدوم المحض وهو محال .

          وبيان لزوم ذلك أن الإضافة الواقعة بين المتناقضين وبين المتقدم والمتأخر قائمة لكل واحد من الأمرين ، وأحد المتقابلين مما ذكرناه لا بد وأن يكون معدوما ، وإذا بطل أن يكون المفهوم من الإضافة وجودا تعين أن يكون عدما .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية