الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          [ ص: 170 ] المسألة الثامنة عشرة

          الزيادة على النص هل تكون نسخا ؟ وقد اتفق العلماء على أن الزيادة إذا كانت عبادة منفردة بنفسها عن المزيد عليها أنها لا تكون نسخا لحكم المزيد عليه .

          وذلك كزيادة صلاة على صلوات أو صوم أو حجة أو زكاة إلا ما نقل عن بعض العراقيين أنهم قالوا : إن زيادة صلاة سادسة على الصلوات الخمس يكون نسخا من جهة أن الصلاة الوسطى المأمور بالمحافظة عليها في قوله تعالى : ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) تخرج عن كونها وسطى ، وهو غير صحيح لوجهين :

          الأول : أن النسخ إنما يكون لحكم شرعي على ما تقدم ، وكون العبادة وسطى أمر حقيقي ليس بحكم شرعي .

          الثاني : أنه يلزم عليه أن لو أوجب الشارع أربع صلوات ثم أوجب صلاة خامسة أو زكاة أو صوما ؛ أن يكون ذلك نسخا لإخراج العبادة الأخيرة عن كونها أخيرة ، وإخراج العبادات السابقة عن كونها أربعا وهو خلاف الإجماع .

          وإنما اختلفوا في غير هذه الزيادة : كزيادة ركعة على ركعات صلاة واحدة ، وزيادة جلدات على جلدات حد واحد ، وزيادة صفة في رقبة الكفارة كالأيمان ، إلى غير ذلك من الزيادات .

          فذهبت الشافعية والحنابلة وجماعة من المعتزلة كالجبائي وأبي هاشم إلى أنها لا تكون نسخا .

          وقالت الحنفية : تكون نسخا ، ومنهم من فصل .

          ثم القائلون بالتفصيل منهم من قال : إن كانت الزيادة قد أفادت خلاف ما أفاده مفهوم المخالفة والشرط كانت الزيادة نسخا ، كإيجاب الزكاة في معلوفة الغنم ، فإنه خلاف ما أفاده قوله صلى الله عليه وسلم : " في الغنم السائمة زكاة " ؛ من نفي الزكاة عن المعلوفة وإلا فلا .

          ومنهم من قال : إن كانت الزيادة مغيرة لحكم المزيد عليه في المستقبل ، كزيادة التغريب في المستقبل على الحد ، وزيادة عشرين جلدة على حد القذف كانت نسخا [ ص: 171 ] وإن لم تغير حكمه في المستقبل فإنها لا تكون نسخا ، وسواء كانت الزيادة لا تنفك عن المزيد عليه ، كما لو أوجب علينا ستر الفخذ فإنه يجب ستر بعض الركبة ، ضرورة أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، أو كانت الزيادة عند تعذر المزيد عليه ، وذلك كإيجاب قطع رجل السارق بعد قطع يده ، وهذا هو مذهب الكرخي وأبي عبد الله البصري من المعتزلة .

          ومنهم من قال : إن كانت الزيادة قد غيرت المزيد عليه تغيرا شرعيا ، بحيث صار المزيد عليه لو فعل بعد الزيادة على حسب ما كان يفعل قبلها كان وجوده كعدمه ووجب استئنافه ، كزيادة ركعة على ركعتي الفجر ، كان ذلك نسخا ، أو كان قد خير بين فعلين فزيد فعل ثالث ، فإنه يكون نسخا لتحريم ترك الفعلين السابقين ، وإلا فلا ، وذلك كزيادة التغريب على الحد ، وزيادة عشرين جلدة على حد القذف ، وزيادة شرط منفصل في شرائط الصلاة كزيادة الوضوء . وهذا هو مذهب القاضي عبد الجبار .

          ومنهم من قال : إن كانت الزيادة متصلة بالمزيد عليه اتصال اتحاد رافع للتعدد ، والانفصال كزيادة ركعتين على ركعتي الصبح ، فهو نسخ وإن لم تكن الزيادة كذلك كزيادة عشرين جلدة على حد القذف ، فلا تكون نسخا ، وهذا هو الذي اختاره الغزالي .

          والمختار أنه إن كانت الزيادة متأخرة عن المزيد عليه ، وكانت رافعة لحكم شرعي كان ذلك نسخا ووجب النظر في دليل الزيادة ، فإن كان مما يجوز بمثله نسخ حكم النص فهو نسخ وإلا فلا . وإن لم تكن الزيادة متأخرة عن المزيد عليه ، أو كانت رافعة لحكم العقل الأصلي لا غير ، لم يكن ذلك نسخا شرعيا وإن كان نسخا لغويا ، وجاز بكل ما يصلح أن يكون دليلا في موضعه ، وإن لم يجز به النسخ ، كالقياس وخبر الواحد ونحوه ، وهذا هو اختيار أبي الحسين البصري .

          وإذ أتينا على شرح المذاهب بالتفصيل فلا بد من النظر فيما يتفرع على هذه المذاهب من المسائل الفرعية ، والكشف عن وجه الحق في كل واحدة منها تتمة للمقصود ، وهي عشرة فروع :

          [ ص: 172 ] الفرع الأول : إذا وجبت الزكاة في معلوفة الغنم لا يكون ذلك نسخا لحكم قوله صلى الله عليه وسلم : " في الغنم السائمة زكاة " ; لأنه لا يقتضي نفي الزكاة عن المعلوفة كما سبق في إبطال دليل الخطاب ، وإنما يقتضي نفي الزكاة عن المعلوفة بناء على حكم العقل الأصلي ، فرفعه لا يكون نسخا لما تقدم .

          وإن سلمنا أن دليل الخطاب حجة ، وأنه يدل على نفي الزكاة عن المعلوفة ، فلا يخفى أن وجوب الزكاة فيها يكون رافعا لما اقتضاه دليل الخطاب فيكون نسخا .

          الفرع الثاني : إذا زيدت ركعة على ركعتي الصبح بحيث صارت صلاة الصبح ثلاث ركعات .

          قال أبو الحسين البصري : هذا ليس بنسخ لحكم الدليل الدال على وجوب صلاة الصبح ; لأن زيادة الركعة إما أن تكون نسخا للركعتين ، أو نسخا لأجزائها ووجوبها ، أو نسخا لوجوب التشهد عقيب الركعتين .

          لا جائز أن يكون نسخا للركعتين ; لأن النسخ لا يتعلق بالأفعال ، كيف وإن الركعتين قارتان لم يرتفعا .

          ولا جائز أن يكون نسخا لأجزائها ، وإلا كان زيادة غسل عضو آخر في طهارة الصلاة ناسخا لأجزائها ووجوبها الذي كان قبل إيجاب غسل العضو الزائد ، ولم يقل به من قال بهذا المذهب كالقاضي عبد الجبار كما عرف من مذهبه .

          ولا جائز أن يكون نسخا لوجوب التشهد عقيب الركعتين ; لأنه إنما كان واجبا آخر الصلاة ، وذلك غير مرتفع ولا متغير ، وإنما المتغير آخر الصلاة ، فإن آخرها كان بآخر الركعتين ، والآن صار آخر الثلاث .

          وقد قيل في إبطاله : لا نسلم الحصر ، فإنه كان يحرم الزيادة على الركعتين والتحريم حكم شرعي ، وقد ارتفع بالزيادة وليس بحق ; إذ لقائل أن يقول : إنما يصح ذلك أن لو كان الأمر بالركعتين مقتضيا للنهي عن الزيادة عليهما ، وليس كذلك بل أمكن أن يكون ذلك مستفادا من دليل آخر ، فزيادة الركعة على الركعتين لا يكون نسخا لحكم الدليل الدال على وجوب الركعتين .

          [ ص: 173 ] وقد قيل في إبطاله أيضا : إن النسخ إنما هو لأجزاء الركعتين بتقدير انفرادها ، وهو حكم شرعي ، وقد ارتفع بالزيادة وفيه نظر ; إذ يمكن أن يقال معنى كون الركعتين مجزية أنه يخرج بها عن عهدة الأمر .

          ومعنى الخروج بها عن العهدة أنه لا يجب مع فعلها شيء آخر ، وليس ذلك حكما شرعيا ليكون رفعه نسخا شرعيا ، بل هو من مقتضيات النفي الأصلي ، وإنما طريق الرد عليه أن يقال : ما ذكروه من الإلزام باشتراط غسل العضو الزائد ، وإن كان لازما على القاضي عبد الجبار ، فغير لازم لغيره كالغزالي ونحوه من القائلين بكون ذلك نسخا فلا بد من الدلالة عليه ، ولم يتعرض لذلك وإن قدر لزوم ذلك فلا يخفى أن وجوب التشهد بعد الركعتين حكم شرعي ، وقد ارتفع بزيادة الركعة ، والقول بأن المغير إنما هو آخر الصلاة ليس كذلك ، فإن التشهد كان واجبا عقيب الركعتين وبالزيادة صار غير واجب .

          الفرع الثالث : زيادة التغريب على الحد ، وزيادة عشرين جلدة على الثمانين ليس بنسخ ; لأن النسخ يستدعي رفع ما ثبت للثمانين من الحكم الشرعي ، ولا تحقيق له إذ الأصل بقاء ما كان لها من الحكم قبل الزيادة بعدها .

          فإن قيل : بيان ارتفاع حكم الثمانين من خمسة أوجه :

          الأول : أن الثمانين قبل الزيادة كانت كل الحد الواجب ، وقد صارت بعد الزيادة بعض الحد .

          الثاني : أن الثمانين كانت مجزئة قبل الزيادة وقد ارتفع إجزاؤها بالزيادة .

          الثالث : الثمانون وحدها كان يتعلق بها التفسيق ورد الشهادة ، وبعد الزيادة زال تعلق ذلك بالثمانين .

          الرابع : أن الثمانين قبل الزيادة كان يجب الاقتصار عليها ، وبعد الزيادة زال هذا الوجوب .

          الخامس : أن قبل الزيادة كانت الزيادة غير واجبة [1] وقد زال هذا الحكم بإيجاب الزيادة .

          والجواب عن الأول : أنه لا معنى لكون الثمانين قبل الزيادة كل الواجب إلا [ ص: 174 ] أنها واجبة وغيرها ليس بواجب ، ووجوبها لم يرتفع وإنما المرتفع بالزيادة عدم وجوب الزيادة ، وذلك معلوم بالبراءة الأصلية فلا يكون رفعه نسخا شرعيا .

          وعن الثاني : ما سبق في الفرع الذي قبله .

          وعن الثالث : لا نسلم أن التفسيق ورد الشهادة متعلق بالثمانين بل بالقذف ، وإن سلمنا تعلق ذلك بالثمانين ، إلا أن معنى التفسيق يرجع إلى عدم موافقة أمر الشارع ورد الشهادة إلى عدم قبولها ، وذلك معلوم بالنفي الأصلي ورد الشهادة ، وإن كان معلوما من قوله تعالى : ( ولا تقبلوا لهم شهادة ) فليس من مقتضيات دليل إيجاب الثمانين ، فرفعه لا يكون نسخا شرعيا .

          وعن الرابع : أن معنى وجوب الاقتصار على الثمانين قبل الزيادة أنها واجبة ولا تجوز الزيادة عليها ، ووجوبها لم يرتفع وإنما المرتفع عدم الجواز المستند إلى البراءة الأصلية ، وذلك ليس بنسخ على ما تقدم .

          وعلى هذا ، فقد خرج الجواب عن الإلزام الخامس أيضا .

          الفرع الرابع : إذا أوجب الله تعالى غسل الرجلين على التعيين ، ثم خيرنا بين ذلك وبين المسح على الخفين أو خيرنا في الكفارة بين الإطعام والصيام ، ثم زاد ثالثا وهو الإعتاق ، هل يكون ذلك نسخا لوجوب غسل الرجلين على التعيين ووجوب التخير بين الإطعام والصيام على التعيين ؟ الحق أنه ليس بنسخ [2] ; لأن معنى كون العمل واجبا على التعيين أنه واجب وأن غيره يقوم مقامه ، وكونه [ ص: 175 ] واجبا لم يرتفع ، وإنما المرتفع كون غيره يقوم مقامه وذلك حكم ثابت بمقتضى النفي الأصلي فرفعه لا يكون نسخا شرعيا ، وكذلك التخيير بين الإطعام والصيام على التعيين معناه أن الواجب واحد منهما ، وأن غيرهما لا يقوم مقامهما ، ووجوب أحدهما لا بعينه غير مرتفع ، وإنما المرتفع كون غيرهما لا يقوم مقامهما ، وذلك ثابت بمقتضى النفي الأصلي فرفعه لا يكون نسخا شرعيا .

          الفرع الخامس : إذا أوقف الله تعالى الحكم على شاهدين بقوله : ( واستشهدوا شهيدين ) فإذا جوز الحكم بشاهد ويمين بخبر الواحد ، فهل يكون ذلك نسخا للحكم بالشاهدين على التعيين ؟ الحق أنه ليس بنسخ وذلك لأن مقتضى الآية جواز الحكم بالشاهدين وأن شهادتهما حجة ، وليس فيه ما يدل على امتناع الحكم بحجة أخرى إلا بالنظر إلى المفهوم ، ولا حجة فيه على ما تقدم ، وإن كان حجة فرفعه يكون نسخا ولا يجوز بخبر الواحد .

          [3] الفرع السادس : إذا أوجب الله تعالى عتق رقبة مطلقة في كفارة الظهار ، فتقييدها بعد ذلك بالإيمان إن ثبت أن الله تعالى أراد بكلامه الدلالة على أجزاء الرقبة الكافرة وغيرها ، كان التقييد بالإيمان نسخا ولا يجوز بدليل العقل والقياس وخبر الواحد ، وإلا كان تقييدا للمطلق لا نسخا .

          [4] الفرع السابع : إذا أوجب الله تعالى قطع يد السارق ورجله على التعيين ، فإباحة قطع رجله الأخرى بعد ذلك إن كان رافعا لعدم الإباحة الثابتة بحكم العقل الأصلي ، فلا يكون نسخا شرعيا وإن كان رافعا للتحريم ، وإن جاز أن [ ص: 176 ] يكون نسخا ، فليس نسخا لمقتضى النص الأول ( لعدم دلالته عليه ) .

          الفرع الثامن : إذا زيد في الطهارة اشتراط غسل عضو زائد على الأعضاء الستة ، فلا يكون ذلك نسخا لوجوب غسل الأعضاء الستة ; إذ هي واجبة مع وجوب غسل العضو الزائد ، ولا لأجزائها عند الاقتصار عليها ; لأن معنى كونها مجزئة أن امتثال الأمر بفعلها غير متوقف على أمر آخر ، وامتثال الأمر غير مرتفع وإنما المرتفع عدم التوقف على شرط آخر ، وذلك المرتفع وهو عدم اشتراط أمر آخر إنما كان مستندا إلى حكم العقل الأصلي ، فلا يكون رفعه نسخا شرعيا .

          وعلى هذا يكون الحكم فيما إذا زيد في الصلاة شرط آخر .

          الفرع التاسع : قوله تعالى : ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) [ البقرة : 187 ] دال على جعل أول الليل غاية للصوم ، فإيجاب صوم أول الليل بعد ذلك هل يكون نسخا لما دلت عليه الآية من كون أول الليل غاية للصوم وظرفا له ؟

          والحق في ذلك أن يقال : إن قلنا : إن مفهوم الغاية ليس بحجة وأنه لا يدل على مد الحكم إلى غاية أن يكون الحكم فيما بعد الغاية على خلاف ما قبلها ، فإيجاب صوم أول الليل لا يكون نسخا لمدلول الآية ، وإلا كان نسخا وامتنع ذلك بدليل العقل وخبر الواحد .

          [5] الفرع العاشر : إذا قال الله تعالى : " صلوا إن كنتم متطهرين " فاشتراط شرط آخر لا يكون نسخا لأنه إما أن يكون نسخا لوجوب الصلاة مع الطهارة ، أو لأجزائها ، أو لما فيه من رفع عدم اشتراط شرط آخر ، أو لشيء آخر .

          لا سبيل إلى الأول لأن الوجوب مع الطهارة لم يرتفع .

          والثاني لا سبيل إليه لما سبق في الفرع الثامن .

          ولا سبيل إلى الثالث لأنه رفع حكم العقل الأصل ، فلا يكون نسخا شرعيا .

          والرابع لا بد من تصويره لأن الأصل عدمه .

          وعلى هذا أيضا قوله تعالى : ( وليطوفوا بالبيت العتيق ) موجب للطواف مطلقا مع الطهارة ومن غير طهارة ، فاشتراط الطهارة بقوله صلى الله عليه وسلم : " الطواف بالبيت [ ص: 177 ] صلاة " . لا يكون نسخا لوجوب الطواف لبقاء وجوبه ، ولا لإجزائه ولا لعدم اشتراط الطهارة لما بيناه .

          ولذلك منع الشافعي من الإجزاء بقوله : " الطواف بالبيت صلاة " .

          [6] وأبو حنيفة لما لم يسعه مخالفة الخبر قال بوجوب الطهارة مع بقاء الطواف مجزئا من غير طهارة ، حيث اعتقد أن رفع الإجزاء يكون نسخا لحكم الكتاب بخبر الواحد .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية