الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          [ ص: 137 ] المسألة الخامسة

          وكما يجوز نسخ حكم الخطاب من غير بدل كما بيناه ، يجوز نسخه إلى بدل أخف منه كنسخ تحريم الأكل بعد النوم في ليل رمضان إلى حله ، وإلى بدل مماثل ، كنسخ وجوب التوجه إلى القدس بالتوجه إلى الكعبة ، وهذان مما لا خلاف فيهما عند القائلين بالنسخ .

          وإنما الخلاف في نسخ الحكم إلى بدل أثقل منه .

          ومذهب أكثر أصحابنا وجمهور المتكلمين والفقهاء جوازه ، خلافا لبعض أصحاب الشافعي وبعض أهل الظاهر ، ومنهم من أجازه عقلا ، ومنع منه سمعا .

          ودليل جوازه عقلا ما سبق في المسألة المتقدمة ، ودليل الجواز الشرعي وقوع ذلك في الشرع .

          فمن ذلك أن الله تعالى أوجب صيام رمضان في ابتداء الإسلام مخيرا بينه وبين الفداء بالمال ، ونسخه بتحتم الصوم ، وهو أثقل من الأول .

          [1] ومن ذلك أن الله تعالى أوجب في ابتداء الإسلام الحبس في البيوت والتعنيف حدا على الزنا ، ونسخه بالضرب بالسياط والتغريب عن الوطن في حق البكر وبالرجم بالحجارة في حق الثيب ، [2] ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان .

          [3] وكل ذلك أثقل من الأول .

          [ ص: 138 ] فإن قيل : ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيضه ، وبيانه من جهة العقل والسمع .

          أما من جهة العقل : فهو أن النسخ إما أن يكون لا لمصلحة أو لمصلحة ، فإن كان الأول : فهو عبث وقبيح ، فلا يكون جائزا على الشارع ، وإن كان لمصلحة : فإما أن تكون أدنى من مصلحة المنسوخ ، أو مساوية لها ، أو راجحة عليها ، فإن كان الأول : فهو أيضا ممتنع لما فيه من إهمال أرجح المصلحتين واعتبار أدناهما ، وإن كان الثاني فليس الناسخ أولى من المنسوخ ، فلم يبق غير الثالث .

          وإذا كان النسخ إنما يكون للأصلح والأنفع والأقرب إلى حصول الطاعة ، وذلك [4] إنما يكون بنقل المكلفين من الأشد إلى الأخف ، ومن الأصعب إلى الأسهل لكونه أقرب إلى حصول الطاعة ، وأسهل في الانقياد ، وإذا كان بالعكس كان إضرارا بالمكلفين ، لأنهم إن فعلوا التزموا المشقة الزائدة ، وإن تركوا استضروا بالعقوبة والمؤاخذة ، وذلك غير لائق بحكمة الشارع .

          وأما من جهة السمع فنصوص :

          أولها : قوله تعالى : ( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ) ولا تخفيف في نسخ الأخف إلى الأثقل .

          وثانيها : قوله تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) وفي نسخ الأخف إلى الأثقل إرادة العسر ، وفيه تكذيب خبر الصادق .

          وثالثها : قوله تعالى : ( ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) والإصر هو الثقل ، أخبر أنه يضع عنهم الثقل الذي حمله للأمم قبلهم ، فلو نسخ ذلك بما هو أثقل منه كان تكذيبا لخبره تعالى ، وهو محال .

          ورابعها : قوله تعالى : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) [ ص: 139 ] وليس المراد منه أنه يأتي بخير من الآية في نفسها إذ القرآن كله خير لا تفاضل فيه ، وإنما المراد به ما هو خير بالنسبة إلينا ، وذلك هو الأخف والأسهل في الأحكام .

          [5] والجواب عن المعقول أن ما ذكروه لازم عليهم في ابتداء التكليف ، ونقل الخلق من الإباحة والإطلاق إلى مشقة التكليف ، وكذلك في نقلهم من الصحة إلى السقم ، ومن الشبيبة إلى الهرم ، ومن الجدة إلى العدم ، وإعدام القوي والحواس بعد وجودها ، فإن ما نقلهم إليه أشق عليهم مما نقلهم عنه .

          وكل ما ذكروه فهو بعينه لازم هاهنا ، وما هو الجواب في صورة الإلزام فهو جوابنا في محل النزاع .

          وعن الآية الأولى : أنه لا عموم فيها حتى يلزم من ذلك إرادة التخفيف في كل شيء .

          وبتقدير العموم فليس فيه ما يدل على إرادة التخفيف على الفور بل جاز أن يكون المراد من ذلك التخفيف في المآل برفع أثقال الآخرة والعقاب على المعاصي بما يحصل لنا من الثواب الجزيل على الأعمال الشاقة علينا في الدنيا وعلى طباعنا تسمية للشيء بعاقبته .

          [6] ومنه قوله تعالى : ( فما أصبرهم على النار ) ، وقوله تعالى : ( إنما يأكلون في ) ، ومنه يقال : ( لدوا للموت وابنوا للخراب ) [7] وبتقدير إرادة الفور فلا يمتنع التخصيص كما خص بأثقال تكاليفه المبتدأة وابتلائه في الأبدان والأموال ، كما سبق تقريره .

          وما ذكرناه من الأدلة الدالة على وقوع ذلك صالح لتخصيص هذه الآية .

          وعن الآية الثانية : أنه يجب حملها على ما فيه اليسر والعسر بالنظر إلى المآل حتى لا يلزم منه كثرة التخصيص بابتداء التكاليف ، وما وقع به الابتلاء في الدنيا في الأبدان والأموال .

          [ ص: 140 ] ولا يخفى أن التكليف بما هو أشق في الدنيا إذا كان ثوابه المآل أكثر وأدفع للعقاب المجتلب بالمعاصي أنه يسر لا عسر .

          وإن سلمنا أن المراد به إرادة اليسر وعدم إرادة العسر العاجل ، لكنه يجب تخصيصه بما ذكرناه جمعا بين الأدلة .

          وعن الآية الثالثة : أنه لا يلزم من وضع الإصر والثقل الذي كان على من قبلنا عنا ، امتناع ورود نسخ الأخف بالأثقل في شرعنا .

          وعن الآية الرابعة : أنه لو كان ذلك عائدا إلى نسخ التلاوة فلا حجة فيه ، إذ النزاع إنما هو في نسخ الحكم الأخف بالأثقل ، وإن كان عائدا إلى نسخ حكم الآية فالخير في الأمور الدينية يرجع إلى ما هو أكثر في الثواب .

          ومنه يقال : الفرض خير من النفل ، بمعنى أنه أكثر في الثواب ، وإن كان أشق من النفل على النفس ، وفي الأمور الدنيوية يرجع إلى ما هو خير في العاجل وأصلح ، ولا يختص ذلك بالأسهل ، ولهذا يحسن أن يقول الطبيب للمريض : " الجوع والعطش أصلح لك وخير من الشبع والري " .

          وعلى هذا فلا يمتنع أن يكون التكليف بالأشق أكثر ثوابا وأصلح في المآل ، على ما قال تعالى : ( ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ) إلى قوله : ( إلا كتب لهم به عمل صالح ) ، وقال تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) ، وقال تعالى : ( جزاء بما كانوا يعملون ) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنها - : " ثوابك على قدر نصبك " [8] فكان التكليف بالأشق خيرا من الأخف .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية