الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          المسألة الأولى .

          الذي صار إليه أصحابنا وجماعة من المعتزلة كالقاضي عبد الجبار والجبائي وأبي هاشم وأبي الحسين البصري ، أن التحليل والتحريم المضافين إلى الأعيان ، كقوله تعالى : ( حرمت عليكم أمهاتكم ) ، ( حرمت عليكم الميتة ) لا إجمال فيه ، خلافا للكرخي وأبي عبد الله البصري .

          احتج القائلون بالإجمال بأن التحليل والتحريم إنما يتعلق بالأفعال المقدورة ، والأعيان التي أضيف إليها التحليل والتحريم غير مقدورة لنا ، فلا تكون هي متعلق التحليل والتحريم ، فلا بد من إضمار فعل يكون هو متعلق ذلك ، حذرا من إهمال الخطاب بالكلية ، ويجب أن يكون ذلك بقدر ما تندفع به الضرورة تقليلا للإضمار المخالف للأصل .

          وعلى هذا ، فيمتنع إضمار كل ما يمكن تعلقه بالعين ، من الأفعال وليس إضمار البعض أولى من البعض ، لعدم دلالة الدليل على تعيينه ، ولأنه لو دل على تعيين بعض الأفعال ، لكان ذلك متعينا من تعلق التحريم بأي عين كانت وهو محال .

          قال النافون : وإن سلمنا امتناع تعلق التحليل والتحريم بنفس العين ، ولكن متى يحتاج إلى الإضمار إذا كان اللفظ ظاهرا بعرف الاستعمال في الفعل المقصود من تلك العين ، أو إذا لم يكن ؟ الأول ممنوع ، والثاني مسلم .

          وبيانه : أن كل من اطلع على عرف أهل اللغة ، ومارس ألفاظ العرب لا يتبادر إلى فهمه عند قول القائل لغيره " حرمت عليك الطعام والشراب ، وحرمت عليك النساء " سوى تحريم الأكل والشرب من الطعام والشراب ، وتحريم وطء النساء .

          والأصل في كل ما يتبادر إلى الفهم أن يكون حقيقة ، إما بالوضع الأصلي ، أو بعرف الاستعمال : والإجمال منتف بكل واحد منهما ، ولهذا كان الإجمال منتفيا عند قول القائل : " رأيت دابة " لما كان المتبادر إلى الفهم ذوات الأربع بعرف الاستعمال ، وإن كان على خلاف الوضع الأصلي .

          وعلى هذا فقد خرج الجواب عما ذكروه من الوجه الثاني أيضا .

          [ ص: 13 ] سلمنا : أنه لا بد من الإضمار ، ولكن ما المانع من إضمار جميع التصرفات المتعلقة بالعين المضاف إليها التحليل والتحريم .

          قولهم : إن زيادة الإضمار على خلاف الأصل .

          قلنا : فإضمار البعض إما إلى الإجمال أو لا يفضي إليه ، فإن كان الثاني ، فقد بطل مذهبكم وإن كان يفضي إلى الإجمال ، فلا بد من إضمار الكل ، حذرا من تعطيل دلالة اللفظ .

          فلئن قالوا : إضمار البعض ، وإن أفضى إلى الإجمال ، فليس في ذلك إلى تعطيل دلالة اللفظ مطلقا ، لإمكان معرفة تعيين مدلوله بدليل آخر .

          وأما محذور إضمار كل التصرفات فلازم مطلقا .

          ولا يخفى أن التزام المحذور الدائم أعظم من التزام المحذور الذي لا يدوم .

          قلنا : بل التزام محذوره إضمار جميع الأفعال أولى من التزام محذور الإجمال في اللفظ لثلاثة أوجه :

          الأول : أن الإضمار في اللغة أكثر استعمالا من استعمال الألفاظ المجملة ، ولولا أن المحذور في الإضمار أقل ، لما كان استعماله أكثر .

          الثاني : أنه انعقد الإجماع على وجود الإضمار في اللغة والقرآن واختلف في وجود الإجمال فيهما ، وذلك يدل على أن محذور الإضمار أقل .

          الثالث : أنه قال - صلى الله عليه وسلم - " لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فجملوها ، وباعوها وأكلوا أثمانها ) [1] وذلك يدل على إضمار جميع التصرفات المتعلقة بالشحوم وإلا لما لحقهم اللعن ببيعها .

          ولو كان الإجمال أولى من إضمار الكل ، لكان ذلك على خلاف الأولى .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية