المسألة الأولى .
الذي صار إليه أصحابنا وجماعة من المعتزلة كالقاضي عبد الجبار والجبائي وأبي هاشم وأبي الحسين البصري ، أن ، كقوله تعالى : ( التحليل والتحريم المضافين إلى الأعيان حرمت عليكم أمهاتكم ) ، ( حرمت عليكم الميتة ) لا إجمال فيه ، خلافا للكرخي وأبي عبد الله البصري .
احتج القائلون بالإجمال بأن التحليل والتحريم إنما يتعلق بالأفعال المقدورة ، والأعيان التي أضيف إليها التحليل والتحريم غير مقدورة لنا ، فلا تكون هي متعلق التحليل والتحريم ، فلا بد من إضمار فعل يكون هو متعلق ذلك ، حذرا من إهمال الخطاب بالكلية ، ويجب أن يكون ذلك بقدر ما تندفع به الضرورة تقليلا للإضمار المخالف للأصل .
وعلى هذا ، فيمتنع إضمار كل ما يمكن تعلقه بالعين ، من الأفعال وليس إضمار البعض أولى من البعض ، لعدم دلالة الدليل على تعيينه ، ولأنه لو دل على تعيين بعض الأفعال ، لكان ذلك متعينا من تعلق التحريم بأي عين كانت وهو محال .
قال النافون : وإن سلمنا امتناع تعلق التحليل والتحريم بنفس العين ، ولكن متى يحتاج إلى الإضمار إذا كان اللفظ ظاهرا بعرف الاستعمال في الفعل المقصود من تلك العين ، أو إذا لم يكن ؟ الأول ممنوع ، والثاني مسلم .
وبيانه : أن كل من اطلع على عرف أهل اللغة ، ومارس ألفاظ العرب لا يتبادر إلى فهمه عند قول القائل لغيره " حرمت عليك الطعام والشراب ، وحرمت عليك النساء " سوى تحريم الأكل والشرب من الطعام والشراب ، وتحريم وطء النساء .
والأصل في كل ما يتبادر إلى الفهم أن يكون حقيقة ، إما بالوضع الأصلي ، أو بعرف الاستعمال : والإجمال منتف بكل واحد منهما ، ولهذا كان الإجمال منتفيا عند قول القائل : " رأيت دابة " لما كان المتبادر إلى الفهم ذوات الأربع بعرف الاستعمال ، وإن كان على خلاف الوضع الأصلي .
وعلى هذا فقد خرج الجواب عما ذكروه من الوجه الثاني أيضا .
[ ص: 13 ] سلمنا : أنه لا بد من الإضمار ، ولكن ما المانع من إضمار جميع . التصرفات المتعلقة بالعين المضاف إليها التحليل والتحريم
قولهم : إن زيادة الإضمار على خلاف الأصل .
قلنا : فإضمار البعض إما إلى الإجمال أو لا يفضي إليه ، فإن كان الثاني ، فقد بطل مذهبكم وإن كان يفضي إلى الإجمال ، فلا بد من إضمار الكل ، حذرا من تعطيل دلالة اللفظ .
فلئن قالوا : إضمار البعض ، وإن أفضى إلى الإجمال ، فليس في ذلك إلى تعطيل دلالة اللفظ مطلقا ، لإمكان معرفة تعيين مدلوله بدليل آخر .
وأما محذور إضمار كل التصرفات فلازم مطلقا .
ولا يخفى أن التزام المحذور الدائم أعظم من التزام المحذور الذي لا يدوم .
قلنا : بل التزام محذوره إضمار جميع الأفعال أولى من التزام محذور الإجمال في اللفظ لثلاثة أوجه :
الأول : أن الإضمار في اللغة أكثر استعمالا من استعمال الألفاظ المجملة ، ولولا أن المحذور في الإضمار أقل ، لما كان استعماله أكثر .
الثاني : أنه انعقد الإجماع على وجود الإضمار في اللغة والقرآن واختلف في وجود الإجمال فيهما ، وذلك يدل على أن محذور الإضمار أقل .
الثالث : أنه قال - صلى الله عليه وسلم - " ) لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فجملوها ، وباعوها وأكلوا أثمانها [1] وذلك يدل على إضمار جميع التصرفات المتعلقة بالشحوم وإلا لما لحقهم اللعن ببيعها .
ولو كان الإجمال أولى من إضمار الكل ، لكان ذلك على خلاف الأولى .