الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          [ ص: 318 ] المسألة الثانية

          اتفق العلماء على جواز تخصيص الكتاب بالكتاب خلافا لبعض الطوائف ، ودليله المنقول والمعقول .

          أما المنقول : فهو أن قوله : ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) ورد مخصصا لقوله - تعالى - : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) ، وقوله - تعالى - : ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) ورد مخصصا لقوله - تعالى - : ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) ، والوقوع دليل الجواز .

          وأما المعقول : فهو أنه إذا اجتمع نصان من الكتاب أحدهما عام والآخر خاص وتعذر الجمع بين حكميهما فإما أن يعمل بالعام أو الخاص ، فإن عمل بالعام لزم منه إبطال الدليل الخاص مطلقا ، ولو عمل بالخاص لا يلزم منه إبطال العام مطلقا لإمكان العمل به فيما خرج عنه كما سبق فكان العمل بالخاص أولى ، ولأن الخاص أقوى في دلالته وأغلب على الظن لبعده عن احتمال التخصيص بخلاف العام ، فكان أولى بالعمل .

          وعند ذلك ، فإما أن يكون الدليل الخاص المعمول به ناسخا لحكم العام في الصورة الخارجة عنه أو مخصصا له ، والتخصيص أولى من النسخ لثلاثة أوجه : الأول ، أن النسخ يستدعي ثبوت أصل الحكم في الصورة الخاصة ورفعه بعد ثبوته ، والتخصيص ليس فيه سوى دلالته على عدم إرادة المتكلم للصور المفروضة بلفظ العام ، فكان ما يتوقف عليه النسخ أكثر مما يتوقف عليه التخصيص فكان التخصيص أولى .

          الثاني : أن النسخ رفع بعد الإثبات ، والتخصيص منع من الإثبات ، والدفع أسهل من الرفع .

          الثالث : أن وقوع التخصيص في الشرع أغلب من النسخ فكان الحمل على التخصيص أولى إدراجا له تحت الأغلب ، وسواء جهل التاريخ أو علم ، وسواء كان الخاص متقدما أو متأخرا .

          [ ص: 319 ] فإن قيل : لو كان الكتاب مبينا للكتاب لخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كونه مبينا للكتاب ، وهو خلاف قوله - تعالى - : ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) ، وهو ممتنع .

          قلنا : إضافة البيان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فيه ما يمنع من كونه مبينا للكتاب بالكتاب إذ الكل وارد على لسانه ، فذكره الآية المخصصة يكون بيانا منه ويجب حمل وصفه بكونه مبينا على أن البيان وارد على لسانه ، كان الوارد على لسانه الكتاب أو السنة لما فيه من موافقة عموم قوله - تعالى - : ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) ، فإن مقتضاه أن يكون الكتاب مبينا لكل ما هو من الكتاب ، لكونه شيئا ، غير أنا خالفناه في البعض فيجب بالبعض الآخر تقليلا لمخالفة الدليل العام .

          فإن قيل : ما ذكرتموه وإن صح فيما إذا كان الخاص متأخرا فلا يصح فيما إذا جهل التاريخ ، وذلك ؛ لأنه يحتمل أن يكون الخاص مقدما فيكون العام بعده ناسخا له ، ويحتمل أن يكون العام متقدما فيكون الخاص مخصصا له ولم يترجح أحدهما على الآخر ، فوجب التعاون [1] والتساقط والرجوع إلى دليل آخر كما ذهب إليه أبو حنيفة والقاضي أبو بكر والإمام أبو المعالي .

          وإن سلمنا كون الخاص مخصصا مع الجهل بالتاريخ فلا يصح فيما إذا كان العام متأخرا عن الخاص ، فإنه يتعين أن يكون ناسخا لمدلول الخاص ، لا أن يكون الخاص مخصصا للعام على ما ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة وبعض المعتزلة .

          وبيانه من أربعة أوجه : الأول أنه إذا قال : اقتلوا المشركين ، فهو جار مجرى قوله : اقتلوا زيدا المشرك وعمرا المشرك وخالدا ، وهلم جرا .

          فإذا الخاص كقوله : اقتلوا زيدا المشرك إذا ورد العام بعده بنفي القتل عن الجميع فهو ناص على زيد ، ولو قال : اقتلوا زيدا ولا تقتلوا زيدا كان ناسخا له .

          الثاني : أن الخاص المتقدم يمكن نسخه ، والعام الوارد بعده مما يمكن أن يكون ناسخا فكان ناسخا .

          [ ص: 320 ] الثالث : هو أن الخاص المتقدم متردد بين كونه منسوخا ومخصصا لما بعده ، وذلك مما يمنع من كونه مخصصا ؛ لأن البيان لا يكون ملتبسا .

          الرابع : قول ابن عباس : كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث ، والعام المتأخر أحدث فوجب الأخذ به .

          قلنا : أما الجواب عن التعارض عند الجهل بالتاريخ فيما ذكرناه من الأدلة السابقة على الترجيح .

          وأما الجواب عن حجج أصحاب أبي حنيفة : أما عن الأول فيمتنع كون العام في تناوله لما تحته من الأشخاص جار مجرى الألفاظ الخاصة ، إذ الألفاظ الخاصة بكل واحد غير قابلة للتخصيص بخلاف اللفظ العام .

          وعن الثاني : أنه لا يلزم من إمكان نسخه للخاص الوقوع ، ولو لزم من الإمكان الوقوع للزم أن يكون الخاص مخصصا للعام لإمكان كونه مخصصا له ويلزم من ذلك أن يكون الخاص منسوخا ومخصصا لناسخه ، وهو محال .

          وعن الثالث : أنهم إن أرادوا بتردد الخاص بين كونه منسوخا ومخصصا أن احتمال التخصيص مساو لاحتمال النسخ فهو ممنوع لما تقدم .

          وإن أرادوا بذلك تطرق الاحتمالين إليه في الجملة فذلك لا يمنع من كونه مخصصا .

          ولو منع ذلك من كونه مخصصا لمنع تطرق احتمال كون العام مخصصا بالخاص إليه من كونه ناسخا .

          وعن الرابع : أنه قول واحد من الصحابة فيجب حمله على ما إذا كان الأحدث هو الخاص جمعا بين الأدلة .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية