الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          قولهم في الإضافة : إذا قال : أعتقت عبيدي وإمائي ثم مات جاز لمن سمعه أن يزوج من شاء من العبيد دون رضى الورثة .

          قلنا : ولو قال : أنفقت دراهمي ، وصرمت نخيلي ، وضربت عبيدي ، فإنه لا يعد كاذبا بتقدير عدم إنفاق بعض دراهمه وعدم صرم بعض نخيله وعدم ضرب بعض عبيده ، ولو كان ذلك للعموم لكان كاذبا ، وليس صرف ذلك إلى القرينة [1] أولى من صرف ما ذكروه إلى القرينة ، وهو الجواب عن قوله : العبيد الذين في يدي لفلان .

          وما ذكروه في الدلالة على تعميم اسم الجنس إذا دخله الألف واللام .

          أما الوجه الأول منه قولهم : إنه لا بد للألف واللام من فائدة ، قلنا : يمكن أن تكون فائدتها تعريف المعهود ، وإن لم يكن ثم معهود ، فالتردد بين العموم والخصوص على السوية بخلاف ما قبل دخولها [2] .

          [ ص: 217 ] وأما الوجه الثاني فقد قيل : إنه من النقل الشاذ الذي لا اعتماد عليه ، وهو مع ذلك مجاز .

          ولهذا فإنه لم يطرد في كل اسم فرد ، فإنه لا يقال : جاءني الرجل العلماء والرجل المسلمون ، ثم وإن أمكن نعته بالجمع ، فإنما كان كذلك لأن المراد من قولهم إنما هو جنس الدينار وجنس الدرهم لا جملة الدنانير وجملة الدراهم .

          وحيث كان الهلاك بجنس الدينار والدرهم لأمر متحقق في كل واحد من ذلك الجنس جاز نعته بالجمع ، نظرا إلى اقتضاء المعنى للجمع ، لا نظرا إلى اقتضاء لفظ الدينار والدرهم .

          وأما الاستثناء في الآية فهو مجاز .

          ولهذا لم يطرد ، فإنه لا يحسن أن يقال : رأيت الرجل إلا العلماء وعلى هذا النحو .

          ثم لو كان ذلك صالحا للاستغراق لأمكن مع اتحاده أن يؤكد ( بكل ) و ( جميع ) كما في ( من ) في قولك : من دخل داري أكرمته وهو غير جائز ، فإنه لا يحسن أن يقال : جاءني الرجل كلهم أجمعون [3] ، ويمكن أن يقال : إن مثل هذا قياس في اللغة ، وهو غير جائز .

          وأما الوجه الثالث فدفعه بمنع الحصر فيما قيل ، بل القائل ثلاثة ، والثالث هو القائل بالتفصيل .

          وأما الوجه الرابع فحاصله يرجع إلى القياس في اللغة ، وقد أبطلناه .

          وأما ما ذكروه في تعميم الجمع المنكر أما الوجه الأول منه فعنه جوابان : الأول : أن قول القائل : رجال حقيقة في كل عدد على خصوصه ممنوع ، وإن أراد به أنه حقيقة في الجمع المشترك بين جميع الأعداد فمسلم .

          ، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون دالا على ما هو الأخص لا حقيقة ولا مجازا .

          وعلى هذا فقد بطل القول بأنا إذا حملناه على الاستغراق كان حملا له على جميع حقائقه ، ضرورة اتحاد مدلوله .

          الثاني : وإن سلمنا أنه حقيقة في كل عدد بخصوصه ، غير أنه ليس حمله على الاستغراق مع احتمال عدم الإرادة أولى من حمله على الأقل مع كونه مستيقنا .

          وأما الوجه الثاني : فإنما يلزم المتكلم به بيان إرادة البعض عينا أن لو كان اللفظ موضوعا له .

          [ ص: 218 ] وأما إذا كان موضوعا لبعض مطلق فلا .

          وأما الاستثناء فقد عرف جوابه كيف وإن أهل اللغة اتفقوا على تسميته نكرة ؟ ولو كان للاستغراق لكان معروفا كله ، فلا يكون منكرا مختلطا بغيره .

          قولهم : إن العرب فرقت بين تأكيد الواحد والعموم بما ذكروه ، إنما يصح أن لو كان ( كلهم أجمعون ) تأكيدا للعموم وليس كذلك ، بل هو تأكيد للفظ الذي يجوز أن يراد به العموم وغير العموم [4] .

          قولهم : لو لم يكن للعموم صيغة تدل عليه لكان التكليف بالأمور العامة تكليفا بما لا يطاق .

          قلنا : إنما يكون كذلك إن لو لم يكن ثم ما يدل على التعميم وليس كذلك ، ولا يلزم من عدم صيغة تدل عليه بوضعها دون التكليف بالمحال مع وجود صيغة تدل عليه مع القرينة .

          وأما شبه أرباب الخصوص قولهم في الأولى : إن الخصوص متيقن ، قلنا : ذلك لا يدل على كونه مجازا في الزيادة ، فإن الثلاثة مستيقنة في العشرة ولا يدل على كونه لفظ العشرة حقيقة في الثلاثة مجازا في الزيادة .

          ، فإن قيل : إلا أن الزيادة في العشرة على الثلاثة أيضا مستيقنة ، قيل : ليس كذلك وإلا لما صح استثناؤها بقوله : علي عشرة إلا ثلاثة ، كيف وإن ما ذكروه من الترجيح معارض بما يدل على كونه حقيقة في العموم ، وذلك لأنه من المحتمل أن يكون مراد المتكلم العموم ، فلو حمل لفظه على الخصوص لم يحصل مراده ، وبتقدير أن يكون مراده الخصوص لا يمتنع حصول مقصوده منه بتقدير الحمل على العموم ، بل المقصود حاصل وزيادة ، وليس أحد الأمرين أولى من الآخر .

          قولهم في الشبهة الثانية : إن أكثر استعمال هذه الصيغ في الخصوص لا نسلم حقيقة ذلك ، وإن سلم إلا أن ذلك لا يدل على كون هذه الصيغ حقيقة في الخصوص ومجازا في العموم ، ويدل عليه أن استعمال لفظ الغائط والعذرة غالب في الخارج المستقذر [ ص: 219 ] من الإنسان ، وإن كان مجازا فيه وحقيقة في الموضع المطمئن من الأرض وفناء الدار .

          وكذلك لفظ الشجاع حقيقة في الحية المخصوصة ، وإن كان غالب الاستخدام في الرجل المقدام .

          قولهم في الثالثة : إنه لا يحسن الاستفهام عن إرادة البعض بخلاف العموم .

          قلنا : حسن الاستفهام عن إرادة العموم لا يخرج الصيغة عن كونها حقيقة في العموم ، ودليل ذلك أنه لو قال القائل : دخل السلطان البلد ولقيت بحرا وناطحت جبلا ورأيت حمارا ، فإنه يحسن استفهامه : هل أردت بالسلطان نفسه أو عسكره ؟ وهل أردت بالجبل الجبل الحقيقي أو الرجل العظيم ؟ وهل أردت بالحمار الحمار الحقيقي أو البليد ؟ وأردت بالبحر البحر الحقيقي أو رجلا كريما ؟ وعدم حسن الاستفهام عن البعض لتيقنه لا يوجب كون الصيغة حقيقة فيه [5] بدليل الثلاثة من العشرة .

          قولهم في الرابعة : لو كان قوله : رأيت الرجال للعموم لكان كاذبا بتقدير إرادة الخصوص ، قلنا : إنما يكون كاذبا مع كون لفظه حقيقة في العموم إن لو لم يكن لفظه صالحا لإرادة البعض تجوزا ، ولهذا فإنه لو قال : رأيت أسدا وحمارا أو بحرا ، وكان قد رأى إنسانا شجاعا ، وإنسانا بليدا ، وإنسانا كريما لم يكن كاذبا ، وإن كان لفظه حقيقة في غيره ، وهذا بخلاف ما إذا قال رأيت عشرة رجال ولم يكن خمسة ، فإن لفظ العشرة مما لا يصلح للخمسة لا حقيقة ولا تجوزا .

          قولهم في الخامسة : إنه لو كانت هذه الصيغ للعموم لكان تأكيدها عبثا ليس كذلك ، فإنه يكون أبعد عن مجازفة المتكلم ، وأبعد عن قبول التخصيص وأغلب على الظن .

          كيف وإنه يلزم على ما ذكروه صحة تأكيد الخاص [6] بقولهم : جاء زيد عينه نفسه ، وتأكيد عقود الأعداد كقوله تعالى : ( تلك عشرة كاملة ) ، وما هو الجواب هاهنا عن التأكيد يكون جوابا في العموم .

          [ ص: 220 ] قولهم : وكان الاستثناء منها نقضا يلزم عليه الاستثناء من الأعداد المقيدة كقوله : له علي عشرة إلا خمسة ، فإنه صحيح بالاتفاق مع أن لفظ العشرة صريح فيها ، وجوابه في الأعداد جوابه في العموم .

          قولهم في السادسة : إن ( من ) لو كانت للعموم لما جمعت ، قلنا : قد قيل إن ذلك ليس بجمع ، وإنما هو إلحاق زيادة الواو وإشباع الحركة وبتقدير أن يكون جمعا فقد قال سيبويه : إنه لا عمل عليه ، لما فيه من جمع ( من ) حالة الوصل ، وإنما تجمع عندما إذا حكى بها الجمع المنكر حالة الوقف .

          وإذ ذاك فلا تكون للعموم .

          وأما شبه أرباب الاشتراك قولهم في الأولى : إن هذه الصيغ قد تطلق تارة للعموم وتارة للخصوص ، والأصل في الإطلاق الحقيقة .

          قلنا : الأصل في الإطلاق الحقيقة بصفة الاشتراك أو لا بصفة الاشتراك ؟ الأول ممنوع والثاني مسلم ، وذلك لأنه إذا كان مشتركا افتقر في فهم كل واحد من مدلولاته إلى قرينة تعينه ضرورة تساوي نسبة اللفظ فيه إلى الكل ، والقرينة قد تظهر ، وقد تخفى .

          وذلك يفضي إلى الإخلال بمقصود الوضع ، وهو التفاهم ، وهذا بخلاف ما إذا كان اللفظ حقيقة في مدلول واحد ، فإنه يحمل عليه عند إطلاقه من غير افتقار إلى قرينة مخلة بالفهم .

          قولهم في الثانية : إنه يحسن الاستفهام .

          قلنا : ذلك لا يدل على كون اللفظ مشتركا ، فإنه يحسن مع كون اللفظ متحد المدلول كما لو قال القائل : خاصمت السلطان ، فيقال : أخصمته ؟ مع كون اللفظ حقيقة في شيء ومجازا في غيره كما سبق تمثيله من قول القائل : صدمت جبلا ورأيت بحرا ولقيت حمارا ، فإنه يحسن استفهامه ، إنك أردت بذلك المدلولات الحقيقية أو المجازية من الرجل العظيم والكريم والبليد .

          وذلك لفائدة زيادة الأمن من المجازفة في الكلام ، وزيادة غلبة الظن وتأكده بما اللفظ ظاهر فيه ، وللمبالغة في دفع المعارض كما سبق في التأكيد .

          وأما طريق الرد على من فرق من الواقفية بين الأوامر والأخبار ، فهو أن كل ما يذكرونه في الدلالة على وجوب التوقف في الأخبار فهو بعينه مصطرد في الأوامر .

          [ ص: 221 ] قولهم : أولا إن الأمر تكليف .

          قلنا : ومن الأخبار العامة ما كلفنا بمعرفتها كقوله تعالى : ( الله خالق كل شيء ) ، و ( وهو بكل شيء عليم ) ، وكذلك عمومات الوعد والوعيد فإنا مكلفون بمعرفتها ، لأن بذلك يتحقق الانزجار عن المعاصي والانقياد إلى الطاعات ، ومع التساوي في التكليف فلا معنى للوقوف .

          وإن سلمنا ذلك ليفضي إلى التكليف بما لا يطاق فهو غير ممتنع عندنا على ما سبق تقريره [7] .

          قولهم : ثانيا إن من الأخبار ما يرد بالمجهول من غير بيان بخلاف الأمر .

          قلنا : لا نسلم امتناع ورود الأمر بالمجهول [8] كيف وإن هذا الفرق ، وإن دل على عدم الحاجة فيما كان من الأخبار لم نكلف بمعرفتها إلى وضع اللفظ العام بإزائه فغير مطرد فيما كلفنا بمعرفته كما سبق ، وهم غير قائلين بالتفصيل بين خبر وخبر .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية