الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          [ ص: 118 ] المسألة التاسعة

          خبر الواحد ، إذا خالف القياس ، فإما أن يتعارضا من كل وجه بأن يكون أحدهما مثبتا لما نفاه الآخر ، أو من وجه دون وجه ، بأن يكون أحدهما مخصصا للآخر .

          فإن كان الأول فقد قال الشافعي رضي الله عنه ، وأحمد بن حنبل ، والكرخي ، وكثير من الفقهاء : إن الخبر مقدم على القياس .

          وقال أصحاب مالك : يقدم القياس ، وقال عيسى [1] بن أبان : إن كان الراوي ضابطا عالما غير متساهل فيما يرويه ، قدم خبره على القياس ، وإلا فهو موضع اجتهاد .

          وفصل أبو الحسين البصري ، فقال : علة القياس الجامعة أن تكون منصوصة أو مستنبطة ، فإن كانت منصوصة ، فالنص عليها إما أن يكون مقطوعا به ، أو غير مقطوع : فإن كان مقطوعا به ، وتعذر الجمع بينهما ، وجب العمل بالعلة لأن النص على العلة كالنص على حكمها ، وهو مقطوع به ، وخبر الواحد مظنون ، فكانت مقدمة .

          وإن لم يكن النص على العلة مقطوعا به ، ولا حكمها في الأصل مقطوعا به ، فيجب الرجوع إلى خبر الواحد لاستواء النصين في الظن ، أو اختصاص خبر الواحد بالدلالة على الحكم بصريحه من غير واسطة ، بخلاف النص الدال على العلة ، فإنه إنما يدل على الحكم بواسطة العلة ، وإن كان حكمها ثابتا قطعا ، فذلك موضع الاجتهاد .

          وإن كانت العلة مستنبطة فحكم الأصل ، إما أن يكون بخبر واحد أو بدليل مقطوع به ، فإن كان ثابتا بخبر واحد ، فالأخذ بالخبر أولى ، وإن كان قطعا ، قال فينبغي أن يكون هذا موضع الاختلاف بين الناس ، ومختاره أنه مجتهد فيه ، وقال القاضي أبو بكر بالوقف .

          والمختار في ذلك أن يقال : إما أن يكون متن خبر الواحد قطعيا ، أو ظنيا : فإن كان متنه قطعيا فعلة القياس ، إما أن تكون منصوصة أو مستنبطة ، فإن كانت منصوصة ، وقلنا إن التنصيص على علة القياس لا يخرجه عن القياس فالنص [ ص: 119 ] الدال عليها ، إما أن يكون مساويا في الدلالة لخبر الواحد ، أو راجحا عليه ، أو مرجوحا .

          فإن كان مساويا ، فخبر الواحد أولى لدلالته على الحكم من غير واسطة ، ودلالة نص العلة على حكمها بواسطة .

          وإن كان مرجوحا ، فخبر الواحد أولى مع دلالته على الحكم من غير واسطة ، وإن كان راجحا على خبر الواحد ، فوجود العلة في الفزع إما أن يكون مقطوعا به أو مظنونا : فإن كان مقطوعا ، فالمصير إلى القياس أولى ، وإن كان وجودها فيه مظنونا ، فالظاهر الوقف ؛ لأن نص العلة ، وإن كان في دلالته على العلة راحجا ، غير أنه إنما يدل على الحكم بواسطة العلة ، وخبر الواحد لا بواسطة ، فاعتدلا .

          وأما إن كانت العلة مستنبطة ، فالخبر مقدم على القياس مطلقا ، ودليله النص والإجماع ، والمعقول .

          أما النص فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ حيث بعثه إلى اليمن قاضيا : ( بم تحكم ؟ قال بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد قال بسنة رسول الله ، قال فإن لم تجد ؟ قال : أجتهد رأيي ، ولا آلو .

          أخر العمل بالقياس عن السنة من غير تفصيل بين المتواتر والآحاد ، والنبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك ، وقال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه الله ورسوله .

          وإما الإجماع ، فهو أن عمر رضي الله عنه ، ترك القياس في الجنين لخبر حمل بن مالك ، وقال : " لولا هذا ، لقضينا فيه برأينا " .

          وأيضا ما روي عنه أنه ترك القياس ، في تفريق دية الأصابع على قدر منافعها بخبر الواحد الذي روى في كل إصبع عشرا من الإبل ، وترك اجتهاده .

          وأيضا فإنه ترك اجتهاده في منع ميراث المرأة من دية زوجها بخبر الواحد ، وقال : " أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها ، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا " وكان ذلك مشهورا فيما بين الصحابة ، ولم ينكر عليه منكر ، فصار إجماعا .

          [ ص: 120 ] وأما المعقول ، فهو أن خبر الواحد راجح على القياس وأغلب على الظن ، فكان مقدما عليه ، وبيان ذلك أن الاجتهاد في الخبر واحتمال الخطأ فيه أقل من القياس ; لأن خبر الواحد لا يخرج الاجتهاد فيه عن عدالة الراوي ، وعن دلالته على الحكم ، وعن كونه حجة معمولا بها ، فهذه ثلاثة أمور .

          وأما القياس ، فإنه إن كان حكم أصله ثابتا بخبر الواحد ، فهو مفتقر إلى الاجتهاد في الأمور الثلاثة ، وبتقدير أن يكون ثابتا بدليل مقطوع به ، فيفتقر إلى الاجتهاد في كون الحكم في الأصل مما يمكن تعليله أو لا .

          وبتقدير إمكان تعليله ، فيفتقر إلى الاجتهاد في إظهار وصف صالح للتعليل ، وبتقدير ظهور وصف صالح يفتقر إلى الاجتهاد في نفي المعارض له في الأصل .

          وبتقدير سلامته عن ذلك يفتقر إلى الاجتهاد في وجوده في الفرع ، وبتقدير وجوده فيه ، يفتقر إلى الاجتهاد في نفي المعارض في الفرع من وجود مانع أو فوات شرط ، وبتقدير انتفاء ذلك ، يحتاج إلى النظر في كونه حجة .

          فهذه سبعة أمور لا بد من النظر فيها . وما يفتقر في دلالته إلى بيان ثلاثة أمور لا غير ، فاحتمال الخطأ فيه يكون أقل احتمالا من احتمال الخطأ فيما يفتقر في بيانه إلى سبعة أمور . فكان خبر الواحد أولى .

          وربما قيل في ترجيح خبر الواحد هنا وجوه أخر واهية آثرنا الإعراض عن ذكرها ، لظهور فسادها بأول نظر .

          فإن قيل : أما ما ذكرتموه من خبر معاذ ، فقد خالفتموه فيما إذا كانت العلة الجامعة في القياس مقطوعا بعليتها وبوجودها في الفرع كما تقدم .

          وما ذكرتموه من الإجماع على تقديم خبر الواحد على القياس فغير مسلم ، فإن ابن عباس قد خالف في ذلك حيث إنه لم يقبل خبر أبي هريرة فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله : " إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا " لكونه مخالفا للقياس .

          وأيضا فإنه رد خبر أبي هريرة في التوضي مما مست النار بالقياس ، وقال : ألسنا نتوضأ بماء الحميم ، فكيف نتوضأ بما عنه نتوضأ ؟ .

          [ ص: 121 ] وأما ما ذكرتموه من الترجيح ، فهو معارض لما يتطرق إلى الخبر من احتمال كذب الراوي ، وأن يكون في نفسه كافرا أو فاسقا أو مخطئا .

          واحتمال الإجمال في دلالة الخبر والتجوز ، والإضمار والنسخ ، وكل ذلك ، غير متطرق إلى القياس .

          وأيضا ، فإن القياس يجوز به تخصيص عموم الكتاب ، وهو أقوى من خبر الواحد ، فكان ترك خبر الواحد بالقياس أولى ، وأيضا فإن الظن بالقياس يحصل للمجتهد من جهة نفسه واجتهاده ، والظن الحاصل من خبر الواحد يحصل له من جهة غيره ، وثقة الإنسان بنفسه أتم من ثقته بغيره ، وأيضا فإن خبر الواحد ، بتقدير إكذاب المخبر لنفسه ، يخرج الخبر عن كونه شرعيا ، ولا كذلك القياس .

          والجواب : قولهم إنكم خالفتم خبر معاذ ، قلنا : غايته أنا خصصناه في صورة لمعنى لم يوجد فيما نحن فيه ، فبقينا عاملين بعمومه فيما عدا تلك الصورة .

          قولهم : إن ابن عباس قد رد خبر أبي هريرة بالقياس فيما ذكروه ، ليس كذلك ، أما رده لخبر غسل اليدين ، فإنما يمكن الاحتجاج به ، أن لو كان قد رده لمخالفة القياس المقتضي لجواز غسل اليدين من ذلك الإناء ، وليس كذلك .

          أما أولا ، فلأنا لا نسلم وجود القياس المقتضي لذلك ، وبتقدير تسليمه ، فهو إنما رده لا للقياس ، بل لأنه لا يمكن الأخذ به ; ولهذا قال ابن عباس : فماذا تصنع بالمهراس .

          والمهراس كان حجرا عظيما يصب فيه الماء لأجل الوضوء ، فاستبعد الأخذ بالخبر لاستبعاده صب الماء من المهراس على اليد .

          وقد وافق ابن عباس على ما تخيله من الاستبعاد عائشة ، حيث قالت : رحم الله أبا هريرة لقد كان رجلا مهذارا ، فماذا يصنع بالمهراس ؟ [2] .

          وأما تركه لخبر التوضي مما مست النار ، فلم يكن بالقياس ، بل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل كتف شاة مصلية ، وصلى ولم يتوضأ ، ثم ذكر القياس بعد معارضته بالخبر .

          [ ص: 122 ] وأما ما ذكروه من ترجيحات القياس على خبر الواحد فمندفعة .

          أما تطرق احتمال الكذب والفسق والخطأ إلى الراوي ، وإن كان منقدحا ، فمثله متطرق إلى دليل حكم الأصل ، إذا كان ثابتا بخبر الواحد ، وهو من جملة صور النزاع .

          وبتقدير ثبوته بدليل مقطوع به ، فلا يخفى أن تطرق ذلك إلى من ظهرت عدالته وإسلامه أبعد من تطرق الخطأ إلى القياس في اجتهاده فيما ذكرناه من احتمالات الخطأ في القياس ، لكونه معاقبا على الكذب والكفر والفسق ، بخلاف الخطأ في الاجتهاد ، فإنه غير معاقب عليه ، بل مثاب .

          وما ذكروه من تطرق التجوز والاشتراك والنسخ إلى خبر الواحد ، فذلك مما لا يوجب ترجيح القياس عليه ، بدليل الظاهر من الكتاب والسنة المتواترة ، فإن جميع ذلك متطرق إليه ، وهو مقدم على القياس .

          قولهم : إن القياس يجوز تخصيص عموم الكتاب به ، قلنا وكذلك خبر الواحد ، فلا ترجيح من هذه الجهة ، كيف وإنه لا يلزم من تخصيص الكتاب بالقياس ، مع أنه غير معطل للكتاب ، أن يكون معطلا لخبر الواحد بالكلية ، إذ الكلام مفروض فيما إذا تعارضا وتعذر الجمع بينهما .

          وقولهم إن الظن من القياس يحصل له من جهة نفسه ، بخلاف خبر الواحد ، قلنا : إلا أن تطرق الخطأ إليه أقرب من تطرقه إلى خبر الواحد لما سبق تقريره .

          وقولهم إن الخبر يخرج عن كونه شرعيا بإكذاب المخبر لنفسه بخلاف القياس .

          قلنا : وبتقدير الخطأ في القياس يخرج عن كونه قياسيا شرعيا فاستويا ، كيف وإن الترجيح للخبر من جهات أخرى غير ما ذكرناها أولا ، وهو أنه مستند إلى كلام المعصوم ، بخلاف القياس ، فإنه مستند إلى اجتهاد المجتهد وهو غير معصوم .

          وأيضا فإن القياس مفتقر إلى جنس النص في إثبات حكم الأصل ، وفي كونه حجة ، وخبر الواحد غير مفتقر إلى شرف القياس .

          وأيضا فإن خبر الواحد قد يصير قطعيا بما يعتضد به من جنسه حتى يصير متواترا ، ولا كذلك القياس ، فإنه لا ينتهي إلى القطع بما يعتضد به من جنس الأقيسة أصلا ، فكان أولى .

          [ ص: 123 ] هذا كله فيما إذا تعارضا وتعذر الجمع بينهما .

          وأما إن كان أحدهما أعم من الآخر ، فإن كان الخبر هو الأعم ، جاز أن يكون القياس مخصصا له على ما سيأتي في تخصيص العموم ، وإن كان القياس أعم من خبر الواحد ، فإن قلنا : إن العلة لا تبطل بتقدير تخصيصها وجب العمل بخبر الواحد فيما دل عليه وبالقياس فيما عدا ذلك جمعا بينهما .

          وإن قلنا بأن العلة تبطل بتقدير تخصيصها ، فالحكم فيها على ما عرف فيما إذا تعذر الجمع بين القياس وخبر الواحد .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية