أجمع أهل العلم على أن الماء القليل أو الكثير إذا وقعت فيه نجاسة، فغيرت النجاسة للماء طعما، أو لونا، أو ريحا؛ أنه نجس ما دام كذلك، ولا يجزي الوضوء والاغتسال به.
وأجمعوا على أن الماء الكثير مثل الرجل من البحر ونحو ذلك إذا وقعت فيه نجاسة، فلم تغير له لونا، ولا طعما، ولا ريحا؛ أنه بحاله في الطهارة، قبل أن تقع فيه النجاسة.
[ ص: 369 ] واختلفوا في الماء القليل تحل فيه نجاسة، لم تغير للماء لونا ، ولا طعما، ولا ريحا؛ فقالت طائفة: إذا كان الماء قلتين [ لم ] يحمل خبثا، روي ذلك عن ابن عمر، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وبه قال الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور.
177 - حدثنا نا علي بن عبد العزيز، أبو نعيم، عن عبد السلام، عن ليث، عن مجاهد، عن قال: ابن عمر، . "إذا كان الماء قدر قلتين لم ينجسه شيء"
واختلفوا في قدر القلتين، ففي الحديث الذي ذكره قال: رأيت قلال هجر، فإذا القلة تسع قربتين، أو قربتين وشيئا. ابن جريج،
وفيه قول ثان: قاله قال: والاحتياط أن تكون القلة قربتين [ ونصفا ] ، فإذا كان الماء خمس قرب لم يحمل نجسا في [ جر كان ] أو غيره، وقرب الشافعي: الحجاز كبار، ولا يكون الماء الذي لا يحمل النجاسة إلا بقرب كبار.
[ ص: 370 ] وفيه قول ثالث: حكي عن أحمد قولان: أحدهما: أن القلة قربتان، والآخر: أن القلتين خمس قرب، ولم يقل بأي قرب.
وفيه قول رابع: قاله قال: أما الذي نعتمد عليه إذا كان الماء قلتين، وهما نحو ست قرب؛ لأن القلة نحو الخابية. إسحاق
وفيه قول خامس: وهو أن القلتين خمس قرب، ليس بأكبر القرب ولا بأصغرها، هذا قول أبي ثور.
وفيه قول سادس: وهو أنها الحباب، وهي قلال هجر، معروفة مستفيضة، سمعنا ذلك في أشعارهم، ولم يجعل لذلك حدا، [ هذا ] قول أبي عبيد.
وفيه قول سابع: وهو أن القلة الجرة، وكذلك قال عبد الرحمن بن مهدي، ووكيع، ولم يجعلوا ذلك حدا يوقف عليه. ويحيى بن آدم،
وفيه قول ثامن: وهو أن القلة قد يقال: للكوز، حكى قبيصة أن صلى خلفه في شهر رمضان، ثم أخذ نعله وقلة معه ثم خرج. الثوري
وفيه قول تاسع: قاله بعض أهل اللغة، قال: والقلة التي جعلت [ ص: 371 ] مقدارا بين ما ينجس [ من ] الماء، وما لا ينجس، هي مأخوذة من استقل فلان بحمله، وأقله إذا أطاقه وحمله، وإنما سميت الكيزان قلالا؛ لأنها تقل بالأيدي، وتحمل فيشرب فيها.
قال: والقلة تقع على الكوز الصغير، والجرة اللطيفة والعظيمة، والحب اللطيف إذا كان القوي من الرجال يستطيع أن يقله، قال جميل بن معمر:
فظللنا بنعمة واتكأنا وشربنا الحلال من قلله
قال وقد روينا عن الأوائل ممن قال بالتحديد في الماء أربعة أقوال سوى ما ذكرناه. أبو بكر:أحدها: عن أنه قال: إذا بلغ الماء أربعين قلة، فلا ينجسه شيء. عبد الله بن عمرو
178 - حدثنا ثنا علي بن الحسن، عبد الله، عن سفيان، عن عن محمد بن المنكدر، قال: عبد الله بن عمرو، وكذلك قال "إذا كان الماء أربعين قلة، فلا ينجسه شيء"، محمد بن المنكدر.
والقول الثاني: إذا كان الماء [ كرا ] لم ينجسه شيء، روينا ذلك عن [ ص: 372 ] مسروق، وقال إذا كان الماء [ كرا ] ، فإنه لا يحمل الخبث. محمد بن سيرين:
وذكر أبو عبيد حديث هذا، قال: وبه يأخذ بعض أهل الحديث. ابن سيرين
وروينا عن أنه قال: إذا كان الماء ذنوبين لم يحمل الخبث. ابن عباس
179 - حدثنا محمد بن نصر: حدثني نا أحمد بن عمرو، أبو داود، عن زمعة، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن قال: ابن عباس، . "إذا كان الماء قدر ذنوبين لم يحمل خبثا"
وقال عكرمة: ذنوبا أو ذنوبين.
وقد روي عن قول رابع: وهو أن الماء إذا كان [ أربعين ] دلوا، لم ينجسه شيء. أبي هريرة
[ ص: 373 ]
180 - حدثنا محمد بن نصر، نا نا أبو الوليد، الوليد، قال: حدثني عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عمرو، عن أنه قال: أبي هريرة، . "إذا كان الماء أربعين دلوا لم ينجسه شيء"
وقالت فرقة خلاف [ كل ] ما ذكرناه، فقالت في الماء الراكد إذا كان في الموضع: إذا حرك منه جانب اضطرب الماء، وخلص اضطرابه إلى الجانب الآخر، فما وقع فيه من نجاسة، نجس لوقوعها فيه، وإن لم تتبين النجاسة فيه، وإن كان الماء في غدير واسع، أو مصنعة واسعة عظيمة، إذا حرك طرفه لم يتحرك الطرف الآخر، ولم يخلص بعض الماء إلى بعض، لم ينجسه ما وقع فيه من النجاسات إلا أن يتغير طعمه أو لونه أو ريحه، حكي هذا القول عن أصحاب الرأي.
وقالت طائفة: هذا قول قليل الماء وكثيره لا ينجسه شيء إلا أن يغلب عليه النجاسة بطعم أو لون أو ريح، يحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدي.
وقد روينا [ أخبارا ] عن الأوائل تدل على أن الماء لا ينجسه شيء، [ ص: 374 ] روينا عن أنه قال: الماء لا ينجس، وروينا ذلك عن ابن عباس ابن المسيب، والحسن ، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وعطاء، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وجابر بن زيد.
وروينا عن حذيفة أنه قال: الماء لا يجنب، وعن أنه سئل عن السؤرة في الحوض يصدر عنها الإبل، ويردها السباع، ويلغ فيها الكلاب، ويشرب منها الحمار، هل نطهر منه؟ قال: لا يحرم الماء شيء. أبي هريرة
181 - حدثنا نا علي بن عبد العزيز، حجاج، نا حماد، عن الحجاج، عن يحيى بن عبيد البهراني، قال: قلت أتطهر من ماء الحمام، فإنه يغتسل منه الجنب وغير الطاهر؟ فقال: "إن لابن عباس: . الماء لا ينجس"
182 - وحدثنا علي، نا أبو غسان، نا إسرائيل، عن الزبرقان بن عبد الله، عن كعب بن عبد الله، قال: خرجنا - أو كنا - مع حذيفة فانتهينا إلى غدير تطرح فيه الميتة، وتغتسل فيه الحائض، فقال حذيفة: "توضؤوا منه، فإن . الماء لا يخبث"
183 - حدثنا علي، نا أبو عبيد، نا عن ابن أبي عدي، حبيب بن [ ص: 375 ] شهاب العبدي، عن أبيه، قال: قلت السؤرة في الحوض، تصدر عنها الإبل، تردها السباع، وتلغ فيها الكلاب، ويشرب منها الحمار؟ قال: لأبي هريرة: . "لا يحرم الماء شيء"
قال وقد احتج بعض من يقول بهذا القول بحجج ست: أحدها: قوله - جل ذكره - ( أبو بكر: فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) قال: فالطهارة على ظاهر الكتاب بكل ماء [ تجب ] إلا ماء منع منه كتاب أو سنة أو إجماع، والماء الذي منع الإجماع من الطهارة به الماء الذي يغلب عليه النجاسة بلون، أو طعم، أو ريح.
ومنها الحديث الذي فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصب ذنوب من ماء على بول الأعرابي.
184 - حدثنا أنا محمد بن عبد الوهاب، نا جعفر بن عون، يحيى، وحدثنا إبراهيم بن عبد الله، نا نا يزيد بن هارون، يحيى الأنصاري، أنسا أخبره أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى حاجته، ثم قام إلى جانب المسجد فبال فيه، فصاح به الناس، فكفهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى فرغ الأعرابي، ثم أمر بذنوب من ماء فصب على بول الأعرابي. أن
ومنها حديث ابن عباس.
185 - حدثنا نا علي بن الحسن، عبد الله بن الوليد، عن سفيان، عن [ ص: 376 ] سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أن امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم استحمت من جنابة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يستحم من فضلها، فقالت: إني اغتسلت منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الماء لا ينجسه شيء" .
ومنها حديث أبي سعيد.
186 - حدثنا محمد بن نصر، نا نا هارون بن عبد الله، نا أبو أسامة، ثنا الوليد بن كثير المخزومي، عن محمد بن كعب القرظي، عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج، عن قال: أبي سعيد الخدري، قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر تطرح فيها لحوم الكلاب، والحيض؟ فقال: "الماء طهور، لا ينجسه شيء" .
[ ص: 377 ] فهذا جواب النبي عليه السلام في الماء جوابا عاما يقع على كل ماء، وإن قل.
ومنها: أنهم مجموعون على أن الماء القليل طاهر قبل أن يحل فيه النجاسة، ولم يجمعوا على أن النجاسة إذا حلت فيه، ولم تغير للماء لونا، ولا طعما، [ ولا ريحا ] أنه نجس، فالماء المحكوم له بالطهارة طاهر حتى يثبت له حكم النجاسة بخبر، أو إجماع.
ومنها: أن أهل العلم مجمعون على أن الثوب النجس إذا غسل بالماء ثلاث مرات فهو طاهر، ولو كان الماء القليل إذا اختلط [ بالنجاسة ] وهو غالب عليها [ نجسا ]؛ ما طهر على هذا القول ثوب أبدا، إلا أن يغسل في مصنعة عظيمة أو [ ماء جار، وذلك ] أن الثوب إذا طرح في الإناء وصب عليه الماء اختلطت النجاسة التي في الثوب بالماء المصبوب في الإناء، فإذا عصر بقي الثوب نجسا على حاله، ثم إن طرح الثوب النجس الذي هذا سبيله في الإناء ثانيا، اختلط الماء المصبوب في الإناء بالنجاسة، وكذلك لو فعل ذلك به ثالثا، أو رابعا، ولا يطهر ثوب في قول من نجس الماء القليل بوقوع النجاسة فيه على ما ذكرناه أبدا، ولما أجمعوا على أن الثوب يطهر بالغسلة الثالثة، إذا لم يبق فيه أثر لم يذهبه الماء، دل ذلك على أن الماء إذا غلب على النجاسة كان طاهرا بكل حال.
[ ص: 378 ] وقد احتج بعض أصحابنا القائلين بالقلتين بحديث ابن عمر.
187 - حدثنا ثنا محمد بن إسماعيل الصائغ، عفان، ثنا أنا حماد بن سلمة، عاصم بن المنذر، قال: لعبيد الله بن عبد الله بن عمر، فحضرت الصلاة، فقام إلى [ مقرى ] البستان فتوضأ منه، وفيه جلد بعير، فقلت: أتوضأ منه وفيه جلد هذا البعير؟ فقال: حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان الماء قلتين لم ينجس" كنا في بستان له أو .
قال فحديث أبو بكر: حجة من قال بالقلتين، وقد دفع [ ص: 379 ] بعض أصحابنا أن يكون هذا الحديث دافعا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ابن عمر "الماء لا ينجسه شيء" ؛ لأن قوله: "الماء لا ينجسه شيء" يأتي على ما دون القلتين، وعلى ما فوقهما، وخصوصية النبي صلى الله عليه وسلم القلتين ينفي النجاسة عنهما، وإثبات الطهارة لهما زيادة زادها، القلتين، وما دون القلتين، وما فوق القلتين داخل في قوله: "الماء لا ينجسه شيء".
قال: ونظير ذلك قوله تعالى ( حافظوا على الصلوات ) فأمر بالمحافظة على الصلوات، والصلوات داخلة في جملة قوله: ( حافظوا على الصلوات ) ثم خص الوسطى بالأمر بالمحافظة عليها، فقال: ( والصلاة الوسطى ) فلم تكن خصوصية الوسطى بالأمر بالمحافظة عليها، مخرجا سائر الصلوات من الأمر العام الذي أمر فيه بالمحافظة على الصلوات، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: وقع على جميع المياه، كما كان قوله تعالى: ( "الماء لا ينجسه شيء" حافظوا على الصلوات ) واقعا على جميع الصلوات.
ثم قال: فكانت هذه المقالة زيادة زادها القلتين من غير أن يكون ذلك مخرجا لما دونهما، مع أن حديث القلتين يدفعه ابن المبارك، ويقول: ليس بالقوي، ولو ثبت حديث القلتين، لوجب أن يكون على قول من يقول بعموم الأخبار على كل قلة صغرت أو كبرت. "إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجسا"،
[ ص: 380 ] فأما تحديد من حدد القلتين بخمس قرب، أو بأربع قرب وشيء، أو بكبار القرب، أو بأوساطها، أو بست قرب، أو قول من قال أنها الحباب، أو إنها الجرة، أو ما يقله المرء من الأرض، فتلك تحديدات واستحسانات من قائلها، لا يرجع القائل منهم في ذلك إلى حجة من كتاب، أو سنة، ولا إجماع، وحديث مرسل، لا يثبت. ابن جريج
188 - حدثنا عن إسحاق، عن عبد الرزاق، قال: حدثت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ابن جريج، "إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجسا، ولا بأسا"، قال زعموا أنها قلال هجر. ابن جريج:
[ ص: 381 ] فالحديث في نفسه مرسل، لا تقوم به حجة، وقد فصل بين الحديثين، وبين من قال برأيه، حيث قال: زعموا، وقوله: زعموا، حكاية عمن لم يسمه، ولو سماه بعد أن يكون من أهل عصره، لم يكن حجة، ولو كان الذي أخبره ثقة. ابن جريج
وذكر عن عبد الرزاق أنه قال: زعموا، أنها قلال هجر، قال الذي أخبرني عن القلال: فرأيت قلال هجر بعد، فأظن كل قلة تأخذ قربتين. ابن جريج
فذكر أن الذي أخبره ظن أن كل قلة تأخذ قربتين، فالظن غير واجب قبوله، وقوله: قربتين، ليس بلازم الأخذ به، ونقل ذلك إلى أن يجعل [ قربتين ونصف كل قلة، غير جائز، وحكي ذلك إلى أن يجعل ] بكبار القرب أو بصغارها أو بأوساطها أبعد من ذلك كله، فإثبات أن يجعل القلة قربتين غير واجب، والشيء الذي شك فيه ابن جريج ليس بثابت، ولو ثبت لاحتمل أن يكون جزءا من مائة جزء، وأقل وأكثر، وإذا كان ذلك كذلك، فغير جائز أن يحتاط، فيجعل نصفا، ثم يفرض على الناس ما سمي احتياطا، والقلل محيطة بهذا التحديد. ابن جريج،
ولزوم ظاهر كتاب الله تعالى، والأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب، وترك الانتقال إلى القول بالمراسيل، ودفع القوم بعموم الأخبار، وقد ذكرت في هذا الباب كلاما كثيرا، ومعارضات وحججا، وهو مثبت في الكتاب الذي اختصرت منه هذا الكتاب.
قال قد ذكرنا بعض ما حضرنا من اختلاف قول من قال في الماء بالتحديد، وقد أنكر ذلك بعض أهل العلم، حكى أبو بكر: عبد الملك مذهب [ ص: 382 ] في الماء، فقال: رأيته من مالك فإنما هو أمر يتبين، ويفتي به الناس بعد ما يقع فيجده معروفا بعينه، فأما أن يوضع فيه أصل ويفتي به الناس مما لم يكن بعد، ليكتفى به فيما يحدث ويكون، فلم أر مالك مالكا يريده، ولا يرخص منه في شيء.
وحكى غيره عن أنه قال في الذي يغتسل بالماء قد وقعت فيه الميتة، قال: أرى أن يغتسل، وإن ذهب الوقت، ولا يعيد صلاة صلاها به إلا في الوقت. مالك
وكان يقول: في رجل توضأ من قلة فيها فارة ميتة، لا يعلم بها، ثم علم، ولم يجد رائحة، ولا طعما، قال: مضت صلاته. الأوزاعي
وكان يقول في الجيفة تقع في الماء، قال: ما لم يغير ريحا، ولا طعما يتوضأ به. الثوري
وحكى عن أحمد بن يونس، أنه قال: لم نجد في الماء أو لم نر في الماء إلا الرخصة. الثوري