الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر الخبر الثالث المختلف في ثبوته .

                                                                                                                                                                              805 - حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أبنا عبد الرزاق، أبنا ابن جريج، عن عبد الله بن محمد، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن عمه عمران بن طلحة، عن أم حبيبة .

                                                                                                                                                                              806 - وحدثنا محمد بن خلف بن شعبة، والحديث له، ثنا زكريا بن عدي، ثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن إبراهيم - هو ابن محمد بن طلحة - عن عمران بن طلحة، عن بنت جحش - يعني حمنة - أنها قالت: " كنت أستحاض حيضة شديدة كثيرة، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستفتيه وأخبره، فوجدته في بيت زينب بنت جحش، فقلت: يا رسول الله: إن لي إليك حاجة، قال: "ما هي يا هنتاه؟" قلت: إني لأستحي منك وإنه لحديث ما منه بد، وإني أستحاض حيضة شديدة، فما ترى تقول فيها يا رسول الله قد منعتني الصوم والصلاة، قال: "أنعت لك الكرسف فإنه يذهب بالدم"، قالت: فإنه أكثر من ذلك. قال: "فتلجمي". قالت: فإنه أكثر من ذلك، إني أثج ثجا، قال: "آمرك بأمرين أيهما فعلت أجزأك من الآخر إن قويت عليهما فأنت أعلم، إنما هي ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام أو سبعة في علم الله، ثم اغتسلي حتى إذا استنقأت فصلي أربعا وعشرين أو ثلاثا وعشرين ليلة وأيامها وصومي، فإن ذلك يجزئك، كذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء، وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن، وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي [ ص: 350 ] العصر ثم تغتسلين فتصلين الظهر والعصر جمعا، وتؤخري المغرب، وتعجلي العشاء، ثم تغتسلي وتجمعي بين الصلاتين، ثم تغتسلي مع الفجر، ثم تصلي كذلك فافعلي وصومي وصلي إن قويت على ذلك" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا: أعجب الأمرين إلي " .

                                                                                                                                                                              حدثنا علي، عن أبي عبيد قال: الكرسف القطن، وقولها: "أثجه ثجا"، هو من الماء الثجاج، وهو السائل، وقوله: "تلجمي" يقول: شدي لجاما، وهو شبيه بقوله: " استثفري"، والاستثفار يكون من ثفر الدابة، شبه هذا اللجام بالثفر؛ لأنه يكون تحت ذنب الدابة، وذكر غير ذلك [ ص: 351 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وأما الفرقة التي نفت القول بخبر أم سلمة، وخبر بنت جحش فإنهم دفعوا خبر سليمان بن يسار بأن قالوا: خبر سليمان بن يسار خبر غير متصل لا يصح من جهة النقل، وذلك أن غير واحد من المحدثين أدخل بين سليمان بن يسار، وبين أم سلمة رجلا اسمه مجهول، والمجهول لا يجوز الاحتجاج بحديثه إذ هو في معنى المنقطع الذي لا تقوم به الحجة.

                                                                                                                                                                              807 - حدثنا يحيى بن محمد، ثنا أحمد بن يونس، ثنا الليث، عن نافع، عن سليمان بن يسار، أن رجلا أخبره عن أم سلمة: أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث.

                                                                                                                                                                              808 - ورواه عبد الرحمن بن مهدي، عن صخر بن جويرية، عن نافع، عن سليمان بن يسار: أن رجلا أخبره عن أم سلمة نحوه.

                                                                                                                                                                              809 - ورواه ابن أبي حازم، عن موسى بن عقبة، عن سليمان بن يسار: أن رجلا أخبره عن أم سلمة نحوه . [ ص: 352 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وأما حديث ابن عقيل، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة في قصة حمنة فليس يجوز الاحتجاج به من وجوه: كان مالك بن أنس لا يروي عن ابن عقيل، قال: الدافع لهذين الخبرين: وفي متن الحديث كلام مستنكر زعمت أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الاختيار إليها فقال لها: "تحيضي في علم الله ستا، أو سبعا"، قالوا: وليس يخلو اليوم السابع من أن تكون حائضا، أو طاهرا، فإن كانت حائضا فيه واختارت أن تكون طاهرا، فقد ألزمت نفسها الصلاة في يوم هي فيه حائض وصامت وصلت وهي حائض، وإن كانت طاهرا واختارت أن تكون حائضا فقد أسقطت عن نفسها فرض الله عليها في الصلاة، والصوم، وحرمت نفسها على زوجها في ذلك اليوم، وهي في حكم الطاهر، وهذا غير جائز، وغير جائز أن تخير مرة بين أن تلزم نفسها الفرض في حال، وتسقط الفرض عن نفسها إن شاءت في تلك الحال.

                                                                                                                                                                              ثم اختلفوا في تأويل هذه الأخبار الثلاثة، فأما فرقة فنفت القول بهذين الخبرين خبر أم سلمة، وخبر بنت جحش، وقالت فرقة بها كلها، وممن قال بها كلها: أبو عبيد القاسم بن سلام، ذكر أبو عبيد أن الناس تكلموا في الحيض قديما وحديثا، ووقتوا فيه أوقاتا مختلفة، فلما رأينا الأوقات بين العلماء قد اختلفت فيه رددنا علم ذلك كله إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انتهينا إليها؛ لأن الله جل ذكره يقول: ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) الآية فنظرنا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدناه قد بين فيه ثلاث سنن، تبين فيها كل مشكل [ ص: 353 ] لمن جمعها وفهمها، حتى لا يدع لأحد فيها مقالا بالرأي.

                                                                                                                                                                              أما أحد السنن الثلاث فهي الحائض التي لها أيام معلومة قد أحيضتها بلا اختلاط عليها، ثم استحيضت، واستمر بها الدم، وهي في ذلك تعرف أيامها ومبلغ عددها، فذكر حديث أم سلمة الذي ذكرناه، وذكر حديثا عن عائشة .

                                                                                                                                                                              810 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، عن أبي عبيد، عن علي بن هاشم بن البريد، عن الأعمش، عن حبيب، عن عروة، عن عائشة : " أن فاطمة ابنة أبي حبيش، استحيضت فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: "تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة وتصلي حتى يجيء ذلك الوقت، وإن قطر على الحصير" .

                                                                                                                                                                              قال أبو عبيد: وأما السنة الثانية ففي الحائض التي لها أيام متقدمة قد جرت عليها وعرفتها، ثم استمر بها الدم وطال حتى اختلطت عليها أيامها وزادت ونقصت وتقدمت وتأخرت حتى صارت لا تعرف عددها ولا وقتها من الشهور، فاحتج لمن هذه قصتها بحديث عائشة الذي بدأنا بذكره، وهو الخبر الثابت، خبر عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش. قال: وأما السنة الثالثة فهي التي ليست لها أيام متقدمة ولم تر الدم قط ثم رأته أول ما أدركت فاستمر بها، فإن سنة هذه غير سنة الأولى والثانية، وذكر حديث بنت جحش الذي رواه ابن عقيل، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن عمه، عن حمنة بنت جحش. [ ص: 354 ]

                                                                                                                                                                              وقال أحمد، وإسحاق خلاف قول أبي عبيد قالا: إذا استحيضت المرأة واستمر بها الدم، وهي غير عارفة بأيامها فيما مضى، وليس ينفصل دمها فتعرف إقباله من إدباره، ووصفت من كثرة دمها وغلبته نحوا مما وصفت حمنة، فإنها تجلس ستة أيام، أو سبعة أيام على حديث حمنة، فذلك وسط من حيض النساء.

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: فقول أحمد، وإسحاق هذا وتأويلهما لحديث حمنة خلاف تأويل أبي عبيد؛ لأن أبا عبيد إنما تأول حديث حمنة فيمن ليست لها أيام متقدمة ولم تر الدم، وتأويل الحديث عند أحمد، وإسحاق لمن هي غير عارفة بأيامها فيما مضى ضد ما قال أبو عبيد، وتأول الشافعي حديث حمنة على غير ما تأوله هؤلاء، وكان الشافعي يقول بعد ذكره حديث حمنة: هذا يدل على أنها كانت تعرف أيام حيضها ستا، أو سبعا فلذلك قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإن قويت أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر، وتغتسلي حين تطهرين، وتصلين الظهر، والعصر جميعا، ثم تؤخري المغرب، وتعجلي العشاء، ثم تغتسلي وتجمعي بين المغرب والعشاء، فافعلي، وتغتسلين عند الفجر ثم تصلين الصبح وكذلك فافعلي، وصومي إن قويت على ذلك، وهذا أحب الأمرين إلي" قال الشافعي: هذا يدل على أنها كانت تعرف أيام حيضتها ستا أو سبعا، فلذلك قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 355 ]

                                                                                                                                                                              وكان الشافعي، بعد أن ذكر حديث فاطمة بنت أبي حبيش، وحديث أم سلمة، وحديث حمنة يقول: وبهذه الأحاديث الثلاثة نأخذ وهي عندنا متفقة فيما اجتمعت فيه، وفي بعضها زيادة على بعض، فذكر حديث فاطمة بنت أبي حبيش، وقد ذكرت قوله فيه فيما مضى، وقد ذكرنا عنه قوله في حديث حمنة، قال: وجواب النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة في المستحاضة يدل على أن المرأة التي سألت لها أم سلمة كانت لا ينفصل دمها فأمرها أن تترك الصلاة عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر، قبل أن يصيبها الذي أصابها، والله أعلم.

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية