الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        معلومات الكتاب

                        إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

                        الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                        صفحة جزء
                        [ ص: 65 ] البحث الرابع : في المحكوم عليه وهو المكلف

                        اعلم أنه يشترط في صحة التكليف بالشرعيات فهم المكلف لما كلف به ، بمعنى تصوره ، بأن يفهم من الخطاب القدر الذي يتوقف عليه الامتثال ، لا بمعنى التصديق به ، وإلا لزم الدور ، ولزم عدم تكليف الكفار لعدم حصول التصديق لهم .

                        واستدلوا على اشتراط الفهم بالمعنى الأول بأنه لو لم يشترط لزم المحال ; لأن التكليف استدعاء حصول الفعل على قصد الامتثال ، وهو محال عادة وشرعا ممن لا شعور له بالأمر .

                        وأيضا يلزم تكليف البهائم ; إذ لا مانع من تكليفها إلا عدم الفهم ، وقد فرض أنه غير مانع في صورة النزاع ، وقد اتفق المحققون على كون الفهم بالمعنى المذكور شرطا لصحة التكليف ، ولم يخالف في ذلك إلا بعض من قال بتكليف ما لا يطاق ، وقد تقدم بيان فساد قولهم .

                        فتقرر بهذا أن المجنون غير مكلف ، وكذلك الصبي الذي لم يميز ; لأنهما لا يفهمان خطاب التكليف على الوجه المعتبر .

                        وأما لزوم أرش جنايتهما ونحو ذلك ، فمن أحكام الوضع ، لا من أحكام التكليف .

                        وأما الصبي المميز فهو وإن كان يمكنه تمييز بعض الأشياء لكنه تمييز ناقص بالنسبة إلى تمييز المكلفين ، وأيضا ورد الدليل برفع التكليف قبل البلوغ ومن ذلك حديث رفع القلم عن [ ص: 66 ] ثلاثة . وهو وإن كان في طرقه مقال لكنه باعتبار كثرة طرقه من قسم الحسن ، وباعتبار تلقي الأمة له بالقبول ، لكونهم بين عامل به ومؤول له صار دليلا قطعيا ، ويؤيده حديث من اخضر مئزره فاقتلوه وأحاديث النهي عن قتل الصبيان حتى يبلغوا ، كما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم في وصاياه لأمرائه عند غزوهم للكفار ، وأحاديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يأذن في القتال إلا لمن بلغ سن التكليف .

                        والأدلة في هذا الباب كثيرة .

                        ولم يأت من خالف في ذلك بشيء يصلح لإيراده كقولهم : إنه قد صح طلاق السكران ، ولزمه أرش جنايته ، وقيمة ما أتلفه .

                        وهذا استدلال ساقط ; لخروجه عن محل النزاع في أحكام التكاليف ، لا [ ص: 67 ] في أحكام الوضع ، ومثل هذا من أحكام الوضع .

                        وأما استدلالهم بقوله تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون حيث قالوا : إنه أمر لمن لا يعلم ما يقول ، ومن لا يعلم ما يقول لا يفهم ما يقال له ، فقد كلف من لا يفهم التكليف .

                        ورد : بأنه نهي عن السكر عند إرادة الصلاة ، فالنهي متوجه إلى القيد .

                        ورد أيضا بغير هذا مما لا حاجة إلى التطويل بذكره .

                        ووقع الخلاف بين الأشعرية والمعتزلة : هل المعدوم مكلف أم لا ؟ فذهب الأولون إلى الأول والآخرون إلى الآخر .

                        وليس مراد الأولين بتكليف المعدوم : أن الفعل أو الفهم مطلوبان منه حال عدمه ; فإن بطلان هذا معلوم بالضرورة ، فلا يرد عليهم ما أورده الآخرون من أنه إذا امتنع تكليف النائم والغافل امتنع تكليف المعدوم بطريق الأولى ، بل مرادهم التعلق العقلي ، أي توجه الحكم في الأزل إلى من علم الله وجوده مستجمعا شرائط التكليف .

                        واحتجوا بأنه لو لم يتعلق التكليف بالمعدوم لم يكن التكليف أزليا ; لأن توقفه على الوجود الحادث يستلزم كونه حادثا ، واللازم باطل ، فالملزوم مثله ; لأنه أزلي لحصوله بالأمر والنهي ، وهما كلام الله ، وهو أزلي .

                        وهذا البحث يتوقف على مسألة الخلاف في كلام الله سبحانه ، وهي مقررة في علم الكلام .

                        واحتج الآخرون : بأنه لو كان المعدوم يتعلق به الخطاب لزم أن يكون الأمر والنهي والخبر والنداء والاستخبار من غير متعلق موجود ، وهو محال . ورد بعدم تسليم كونه محالا ، بل هو محل النزاع .

                        وتطويل الكلام في هذا البحث قليل الجدوى ، بل مسألة الخلاف في كلام الله سبحانه ، وإن طالت ذيولها ، وتفرق الناس فيها فرقا ، وامتحن بها من امتحن من أهل العلم ، وظن من ظن أنها من أعظم مسائل أصول الدين - ليس لها كثير فائدة ، بل هي من فضول العلم ، ولهذا صان الله سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم عن التكلم فيها .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية