في سورة مريم نقف على صورة من صور العناد والإنكار التي يتشبث بها أصحاب الكفر والضلال، وهي صورة تتكرر عبر العصور والأزمان، واختلاف البقاع والأيام، وهي تدل على نموذج استشرى فيه الغي والضلال، واستمرأ الكفر والعصيان، بحيث لم يعد يعرف غير طريق الضلال طريقًا، ولا يريد أن يسلك سواه سبيلاً.
وقد أخبرنا القرآن الكريم صورة هذا النموذج، فقال: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولدًا} (مريم:77) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أفرأيت يا محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي كفر بآياتنا، أي: حُجَجَنا وما أنزلناه من الهدى والبينات، فلم يصدِّق بها، بل أعرض عنها، وأنكر وعيدنا يوم القيامة؛ وقال - وهو بالله كافر، وبرسوله جاحد -: لأوتين في الآخرة مالاً وولدًا.
وقد رويت في سبب نزول هذه الآية، عدة روايات؛ من ذلك ما رواه الإمامان البخاري ومسلم في "صحيحهما" عن خبَّاب رضي الله عنه قال: كنت قينًا -أي عبدًا- في الجاهلية، وكان لي على العاص بن وائل دَيْنٌ، فأتيته أتقاضاه، قال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فقلت: لا أكفر حتى يميتك الله، ثم تُبْعَث، قال: دعني حتى أموت وأُبعث، فسأوتى مالاً وولدًا، فأقضيك. فأنزل الله تعالى: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولدًا * أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدًا} إلى قوله: {ويأتينا فردًا} (مريم:77-80).
وفي رواية أخرى للحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يطلبون العاص بن وائل السهمي بدَيْنٍ، فأتوه يتقاضونه، فقال: ألستم تزعمون أن في الجنة فضة وذهبًا وحريرًا، ومن كل الثمرات ؟ قالوا: بلى، قال: فإن موعدكم الآخرة، فوالله لأوتين مالاً وولدًا، ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به، فضرب الله مَثَله في القرآن، فقال: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولدا} إلى قوله سبحانه: {ويأتينا فردا} وفي رواية ثالثة: أليس يزعم صاحبكم أن في الجنة حريرًا وذهبًا؟ قالوا: بلى، قال: فميعادكم الجنة، فوالله لا أومن بكتابكم الذي جئتم به. يقول ذلك استهزاءً بكتاب الله، واستخفافًا به.
فقوله سبحانه: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا} أسلوب فيه تعجب واستنكار من موقف هذا الكافر؛ أي: أرأيت -يا محمد- أمر هذا الكافر بآيات الله، والجاحد بنعمه وآلائه، ما هو المصير الذي سينتظره، وما هي العاقبة التي ستناله جراء موقفه هذا.
إن الآيات الكريمة تستعرض نموذجًا من تهكم الكفار، واستخفافهم بالبعث، والقرآن يعجب من أمرهم، ويستنكر ادعاءهم، وتبجحهم بمقولتهم تلك. إذ على الرغم من كل الآيات الكونية والسمعية، المبثوثة في كل مكان من العالم، يظل هذا الكافر يتمادى في غيِّه غاية التمادي، ويسترسل في كفره ويتطاول على خالقه، ولا يأبه بعواقب ذلك.
ثم تأتي الآيات اللاحقة لترد على صاحب هذا الموقف المستعلي، وتنـزله من علياء عرشه؛ يقول تعالى: {أطَّلع الغيب} (مريم:78) يقول عز ذكره: أَعَلِم قائل هذا القول علم الغيب؟ فعلم أن له في الآخرة مالاً وولدًا، باطلاعه على الغيب! {أم اتخذ عند الرحمن عهدا} (مريم:78) أم آمن بالله وعمل بما أمره به، وانتهى عما نهاه عنه، فكان له بذلك عند الله عهد ووعد أن يؤتيه ما يقول من المال والولد؟!! {كلا سنكتب ما يقول} (مريم:79) من طلبه ذلك، وحكمه لنفسه بما يتمناه، وكفره بالله العظيم، {ونمد له من العذاب مدا} (مريم:79) أي: في الدار الآخرة على قوله ذلك، وكفره بالله في الدنيا، {ونرثه ما يقول} (مريم:80) أي: من مال وولد نسلبه منه، عكس ما قال إنه يؤتى في الدار الآخرة مالاً وولدًا، زيادة على الذي له في الدنيا، بل في الآخرة يسلب منه الذي كان له في الدنيا، ولهذا قال تعالى: {ويأتينا فردا} (مريم:80) أي: خالي الوفاض من المال والولد، وما جمع من الدنيا، وما عمل فيها؛ لا يتبعه مال ولا ولد، ولا قريب ولا بعيد، ولا قليل ولا كثير.
فعجبًا لأمر الإنسان، هذا الإنسان الذي أكرمه الله أي تكريم، وفضَّله على خلقه أجمعين أي تفضيل، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة أي إسباغ، وبثَّ حوله من كل آياته، ثم هو بعد هذا كله، يريد أن يتكبر ويتجبر على خالقه ورازقه، مع أنه لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا.
- التصنيف:
أسباب النزول