تعتبر الأحاديث الواردة في المجالات الطبية من أكثر النصوص حاجة إلى البحث والنظر لكثرة ما يثار حولها من الجدل والمعارضة، فحصل الإفراط من جهة والتفريط من جهات أخرى، فتعسف وتكلف البعض في تحميلها ما لا تحتمل من المعاني، وأراد البعض رد ما فيها من الحق باعتبار أن مقام النبي صلى اله عليه وسلم أجل من أن يكون طبيبا يصف أدوية وأشفية، مما يؤكد على ضرورة تفعيل الضوابط والقواعد الحاكمة لدلالات تلك النصوص، ومراعاة قيودها ومناسباتها، لضمان حسن الفهم والتوجيه، بما يعزز مكانة السنة النبوية في الوعي الإسلامي، وإبعادها عن مثارات الجدل، ومواقع الشبهات.
وهذه أهم القواعد الحاكمة في فهم النصوص الطبية في السنة النبوية، وهي بطبيعة الحال قواعد دلالات الألفاظ التي يعملها العلماء والأصوليون في فهم نصوص الشرع، ويؤكدون على ضرورة الرجوع إليها:
أولا: التأكد من دلالة النص النبوي على الواقع الذي نريد إسقاطه عليه: إذ قد يستدل البعض بنص نبوي على نازلة طبية، ويقحم النص إقحاما فيما لم يدل عليه، ولا سيق لأجله، وهذا التسطيح لدلالات النص النبوي قد نجده اليوم في بعض البحوث المتسرعة، أو المقاطع المبثوثة على وسائل التواصل الاجتماعي، ولا شك أن الحد من انتشارها من أولويات الدفاع عن السنة النبوية؛ فإنهم يعرضون النص النبوي للتشكيك والسخرية بتفسيراتهم التي تفتقر إلى بدهيات الإثبات العلمي، بل المنطق العقلي أحيانا.
ومن الأمثلة على ذلك: محاولة المطابقة بين حديث التخليل في الوضوء وبين النظريات العلاجية الصينية، وأنها تساعد على إعادة التوازن للطاقة الحيوية في جسم المتوضئ، وتساعد على إزالة كثير من الآلام كالصداع والروماتيزوم، ويمضي الكاتب بعد ذلك إلى المواءمة بين أفعال الوضوء الأخرى وبين النظريات الدوائية في الطب الصينية، بطريقة لا تنتمي إلى المنهج العلمي في شيء، فضلا عن أن تلك الطرق العلاجية الصينية مبنية على أفكار فلسفية تقوم على فكرة التوازن بين (الين واليانج) والتي تعني أن كل شيء في الكون مرده إلى الطاقة الكونية وإلى ما هنالك من الأفكار العقائدية الباطلة، فأي خدمة للإسلام في توريط النص النبوي في هذه التفسيرات المنتحلة، والشذوذات الفكرية التي تعود على النص بالرد والإبطال!
ثانيا: فهم النص النبوي الوارد في قضايا الطب وفق مدلولات الأسلوب العربي: وهذا من أهم الضوابط المنهجية والقواعد الحاكمة في فهم النص النبوي عموما وفي أبواب الطب على وجه الخصوص، فتضبط دلالة العموم وما يرد عليها من التخصيص، والإطلاق وما يرد عليه من التقييد، من خلال جمع الروايات وألفاظ الحديث.
ومن الأمثلة التي يتأكد من خلالها ضرورة مراعاة الدلالات وأساليب البلاغة العربية، حديث: عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنهى أمتي عن الكي». رواه البخاري في صحيحه.
فظاهر اللفظ يدل على الحصر، ولكن الحصر الوارد حسب الأسلوب البلاغي حصر إضافي وليس حصرا حقيقيا، ويؤكد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر أدوية أخرى غير هذه الثلاثة ما يدل على أن الشفاء لا ينحصر بها، إضافة إلى أن في بعض ألفاظ الحديث ورواياته ما يدل على أنها من جملة ما يمكن الاستشفاء بها لا الحصر بها، ففي الصحيحين عن جابر بن عبد الله، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن كان في شيء من أدويتكم خير، ففي شربة عسل، أو شرطة محجم، أو لذعة من نار، وما أحب أن أكتوي».
قال القرطبي: وإنما خص المذكورات لأنها أغلب أدويتهم وأنفع لهم من غيرها بحكم العادة ولا يلزم كونها كذلك في حق غيرهم ممن يخالفهم في البلد والعادة والهوى والمشاهدة قاضية باختلاف العلاج والأدوية باختلاف البلاد والعادة. انتهى
وقال ابن بطال في شرحه على البخاري: الحجامة وشرب العسل والكى إنما هو شفاء لبعض الأمراض دون بعض، ألا ترى قوله عليه السلام: «أو لذعة بنار توافق الداء» فشرط موافقتها للداء فدل هذا أنها إذا لم توافق الداء فلا دواء فيها. انتهى.
فالفهم السليم للنص النبوي يكون من خلال إعمال قواعد دلالات الألفاظ، وتحكيم أساليب العرب في الفاظهم وتراكيبهم، وإهمال ذلك يؤدي إلى مفاهيم خاظئة، وإقحام للنصوص في غير ما تدل عليه، مما يعود سلبا على مكانة السنة النبوية من خلال تقديم أفهام مغلوطة تتعارض مع العلم والحس المشاهد.
ثالثا: إعمال السياق والمناسبة في فهم النص النبوي في مجال الطب: وهذه وإن كانت قاعدة عامة في فهم النصوص لكنها في مجالات الطب والتداوي أكثر أهمية، فقد يصف النبي صلى الله عليه وسلم دواء لمريض دون آخر، أو لحال دون آخر، فلا يصلح تعميمه في غير المحل الذي يصلح له؛ إعمالا لمناسبة النص وسياقه، فحديث الحبة السوداء على سبيل المثال وصفه النبي صلى الله عليه وسلم لمريض بعينه، فينتفع به هو وكل من كان في مثل حاله، إضافة إلى أنه وصف له ذلك بحسب غالب الحال، فحمله على عموم الأشخاص والأحوال مخالف لقواعد تفسير النص.
فقد نقل ابن حجر في الفتح فقال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصف الدواء بحسب ما يشاهده من حال المريض ، فلعل قوله " في الحبة السوداء " وافق مرض من مزاجه بارد ، فيكون معنى قوله «شفاء من كل داء» أي: من هذا الجنس الذي وقع القول فيه ، والتخصيص بالحيثية كثير شائع والله أعلم.
فهذا يدل على أن الحديث من العام المخصوص، وحمله على العموم لا يؤيده شرع ولا حس، فقد مرض النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأمراض كالصداع فاحتجم ولم يستعمل الحبة السوداء، ووصف لبعض الصحابة أمورا أخرى غير الحبة السوداء بحسب الحال والمرض.
وهذا يجعل الكلام في النصوص النبوية الواردة في المجالات الطبية لا بد فيه من مراعاة القواعد الحاكمة في فهم النصوص، والتريث قبل إطلاق العمومات، بمراعاة كون النص يدل على المسألة الواقعة بنوع من الدلالات المعروفة، وأن لا يتعسف في حمل النص النبوي على أمر لا يدل عليه بدافع المطابقة بين النص وبين النظريات الطبية الحديثة، وإثبات الإعجاز العلمي في السنة النبوية، وكذلك لا بد من مراعاة أساليب العربية وتراكيبها، ومراعاة السياق والمناسبة التي قيل فيها النص، ومراعاة المسلمات الطبية الثابتة بيقين، وعدم المعارضة بينها وبين كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هذا تقديما للطب على كلام النبوة، بل من حسن فهمه وتنزيله، بحيث يعاد فهم النص فهما سليما في ضوء تلك المسلمات، كما كان شأن العلماء قديما، فقد كانوا يراعون ما قرره الأطباء في زمانهم، ونحن اليوم في ظل تطور الحياة المادية والاكتشافات الطبية ينبغي أن نكون أكثر حرصا على استيعاب ذلك في تفسيراتنا وتوجيهنا للنص النبوي، قال القرطبي كما نقل عنه ابن حجر وغيره: فإن وجدنا بالمشاهدة صحة ما قالوه -يعني الأطباء- فنفتقر حينئذ إلى تأويل كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتخريجه على ما يصح إذ قامت الدلالة على أنه لا يكذب. انتهى.
فتاوى الحج
مقالات الحج
تسجيلات الحج
استشارات الحج






