لما نزلت سورة المدثر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس خفية، وكان من أسلم من الناس إذا أراد الصلاة يذهب إلى بعض الشِّعاب، يستخفي بصلاته من المشركين، فلحقهم المشركون يستهزئون بهم، ويعيبون صلاتهم، فحدث شجار بينهم وبين سعد بن أبي وقاص، أدمى فيه سعد رجلاً من المشركين. وبعد تلك الحادثة دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه دار الأرقم عند الصفا، فكانوا يقيمون الصلاة بها، واستمروا كذلك ثلاث سنين، أو تزيد، روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} (الحجر:94) فخرج هو وأصحابه، وكان ذلك في السنة الرابعة، أو الخامسة من البعثة، وبنزول هذه الآية ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الاختفاء بدار الأرقم، وأعلن بالدعوة للإسلام جهراً.
نقف في السطور التالية مع هذه الآية عدة وقفات، لنرصد المراد منها، وما ترشدنا إليه من معان.
الوقفة الأولى: (الصدع) الجهر والإعلان. وأصل الصدع الانشقاق. ومنه انصداع الإناء، أي انشقاقه، و(الصديع) الصبح؛ لأنه يصدع الليل. قال الرازي: "ولعل ألم الرأس إنما سمي صُداعاً؛ لأن قحف الرأس عند ذلك الألم كأنه ينشق". وتصدع القوم: أي تفرقوا، ومنه قوله سبحانه: {يومئذ يصدعون} (الروم:43) أي: يتفرقون. وصدعته فانصدع: أي انشق. ويقال: صدع بالحجة، إذا تكلم بها جهاراً. وفي الآية هنا استعمل (الصدع) في لازم الانشقاق، وهو ظهور الأمر المحجوب وراء الشيء المنصدع، والمراد هنا الجهر والإعلان.
الوقفة الثانية: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قوله {فاصدع بما تؤمر} يقول: فأمضه. وعنه أيضاً: افعل ما تؤمر. وعن مجاهد قال: هو القرآن، وعنه: الجهر بالقرآن في الصلاة.
الوقفة الثالثة: قال سبحانه: {فاصدع بما تؤمر} ولم يقل: بما تؤمر به، و(الأمر) يقتضي (الباء) لأن معنى الكلام: فاصدع بأمرنا، قال الفراء: أراد فاصدع بالأمر، أي: أظهر دينك، فـ (ما) مع الفعل على هذا بمنزلة المصدر. وقال ابن الأعرابي: معنى {اصدع بما تؤمر} أي: اقصد.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن حذف (الباء) التي يوصل بها (تؤمر) من قوله: {فاصدع بما تؤمر} على لغة الذين يقولون: أمرتك أمراً، قالوا: للعرب في ذلك لغتان: إحداهما: أمرتك أمراً. والأخرى: أمرتك بأمر، قالوا: وإدخال (الباء) في ذلك وإسقاطها سواء.
قال ابن عاشور: "وقَصْدُ شمول الأمر كل ما أُمِرَ الرسول صلى الله عليه وسلام بتبليغه، هو نكتة حَذْفِ مُتَعَلَّق {تؤمر} فلم يصرح بنحو: بتبليغه، أو بالأمر به، أو بالدعوة إليه، وهو إيجاز بديع".
الوقفة الرابعة: جاء الأمر صريح من غير شائبة إلى النبي ليجهر بدعوته، وصيغة (الأمر) في القرآن تفيد الوجوب، ما لم توجد قرينة أخرى تصرفه عن هذا الوجوب. وهنا لم توجد هذه القرينة، فدل على أن الأمر في الدعوة يفيد الوجوب. ومعلوم أن دعوة الإسلام عالمية للناس كافة، وأن الإسلام زمن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يجاوز الجزيرة العربية، فعلى عاتق من سيتم إبلاغ الدعوة للعالمين؟ والجواب لا يحتاج إلى عمق تفكير؛ إن واجب إبلاغ الإسلام للعالمين يقع على عواتق المسلمين، الذي اعتنقوا هذا الدين، وعلى هذا تكون الدعوة إلى الله تعالى واجبة في حق كل مسلم على هذه الخليقة في كل زمان من الأزمان، كما كانت حقاً وواجباً على الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام، فقول المسلم: أنا مسلم، يعني ضرورة: يعني أنا داعية.
الوقفة الخامسة: من لطيف هذه العبارة {فاصدع بما تؤمر} أنها جاءت بصيغة الأمر مقرونة بلفظ الأمر {تؤمر} للدلالة على تمكُّن الوجوب في حق هذا الأمر.
الوقفة السادسة: قوله سبحانه: {وأعرض عن المشركين} أي: أعرض عن الاهتمام باستهزاء المشركين وعن المبالاة بقولهم، فقد برأك الله عما يقولون. و(الإعراض) عن المشركين ليس إعراضاً كليًّا، بل هو إعراض عن بعض أحوالهم لا عن ذواتهم، وذلك إبايتهم الجهر بدعوة الإسلام بين ظهرانيهم، وعن استهزائهم، وعن تصديهم إلى أذى المسلمين. وليس المراد (الإعراض) عن دعوتهم؛ لأن قوله تعالى: {فاصدع بما تؤمر} مانع من ذلك.
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن قوله تعالى: {وأعرض عن المشركين} منسوخ بآية القتال، وهي قوله سبحانه: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق} (التوبة:29) وقد ضعَّف الإمام الرازي دعوى النسخ؛ لأن معنى هذا (الإعراض) ترك المبالاة بهم، فلا يكون منسوخاً.
فإذا قامت الدعوة بشكلها العلني، فلا بد من أبجديات المنطق أن يتصدى لها أعداؤها بكل ما أوتوا من قوة وشراسة -وهو أمر أشد ما يكون وضوحاً اليوم- والله عندها يأمر نبيه عليه الصلاة والسلام ومن بعده أمته أن تكف وجوهها عن المشركين، الذين يحاولون إعاقة سير الدعوة، بل ومحاربتها، ولينطلقوا في دعوتهم رغم كل كيد يُكادون به {إنهم يكيدون كيدا * وأكيد كيدا * فمهل الكافرين أمهلهم رويدا} (الطارق:15-17).
الوقفة السابعة: قال ابن عاشور رحمه الله: "إن اختفاء النبي صلى الله عليه وسلم بدار الأرقم كان بأمر من الله تعالى؛ لحكمة علمها الله، أهمها تعدد الداخلين في الإسلام في تلك المدة، بحيث يغتاظ المشركون من وفرة الداخلين في الدين مع أن دعوته مخفية، ثم إن الله أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بإعلان دعوته لحكمة أعلى، تهيأ اعتبارها في علمه تعالى".
الوقفة الثامنة: قال صاحب "الظلال" تعقيباً على هذه الآية: "إن (الصَّدع) بحقيقة هذه العقيدة، والجهر بكل مقوماتها، وكل مقتضياتها ضرورة في الحركة بهذه الدعوة، فـ (الصَّدع) القوي النافذ هو الذي يهز الفطرة الغافية؛ ويوقظ المشاعر المتلبدة، ويقيم الحجة على الناس {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة} (الأنفال:42) أما التدسس الناعم بهذه العقيدة؛ وجعلها عِضين، يعرض الداعية منها جانباً ويكتم جانباً؛ لأن هذا الجانب يثير الطواغيت، أو يَصُدُّ الجماهير، فهذا ليس من طبيعة الحركة الصحيحة بهذه العقيدة القوية.
و(الصدع) بحقيقة هذه الحقيقة لا يعني الغلظة المنفرة، والخشونة، وقلة الذوق والجلافة! كما أن الدعوة بالحسنى لا تعني التدسس الناعم، وكتمان جانب من حقائق هذه العقيدة وإبداء جانب، وجعل القرآن عِضين، لا هذه ولا تلك، إنما هو البيان الكامل لكل حقائق العقيدة؛ في وضوح جلي، وفي حكمة كذلك في الخطاب، ولطف ومودة ولين وتيسير". انتهى كلامه رحمه الله.
فالصدع بكلمة الحق واجب على كل مسلم ما وجد إلى ذلك سبيلاً، مع مراعاة الحكمة والموعظة الحسنة، ومعرفة من أين تؤتى الأمور، وفي الحديث: (أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر) رواه أصحاب السنن الأربعة.
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
في ظلال آية