التمهيد:
الحِرْفة ( بكسر الحاء وسكون الراء ): جمعُها حِرَف، وهي في لغة العرب: طُرُقُ ووسائل الكسب من زراعة وتجارة وصناعة وغيرها. يقال للواحد: حِرْفي ( بكسر الحاء وسكون الراء )، وهو: من يكتسب رزقه بالعمل في حرفةٍ مَّا بصفة مستمرة.
أما المِهْنة ( بكسر الميم وسكون الهاء ): فتخص ـ غالبا ـ ماله صلة بالعمل اليدوي، الذي يصاحبه عادة ابتذال واتِّساخ في اليدين والملابس كالحِدادة ونحوها.
وقال بعض أهل اللغة: إن المهنة تزيد على الحرفة بوجود مهارة وخبرة وحِذْق؛ وذلك نتيجة ممارسة أطول. وهناك أقوال أخرى لعلماء اللغة في التفريق بين الحرفة والمهنة، وهي ليست ذات فائدة كبيرة.
هذا، ومن مجمل ما تقدم يمكن القول: إن الحرف والمهن هي: مجموعة من النشاطات البدنية والذهنية التي يمارسها الإنسان، والتي يتكسَّب بها من خلال أقواله وأفعاله..
مكانة العمل والكسْب في الإسلام:
اعتبر الإسلام الكسب والاحتراف عبادة دينية، يُؤجَر عليها الإنسان الذي استخلفه الله تعالى في هذه الأرض؛ لأن مفهوم العبادة لا يقتصر على الصلاة، والصوم، والحج، وتشميت العاطس، ونحو ذلك... بل إن جميع الأعمال، والوظائف، والمهن، والحرف، وجميع النشاطات الأخرى التي يمارسها الإنسان، أو يتوصل بها أو بشيء منها إلى تحقيق احتياجاته الفردية، أو احتياجات المجتمع، أو نفع الناس والسعي في تأمين الراحة والطمأنينة لهم، والعمل على ازدهار حياتهم، هي من العبادات والطاعات بالمعنى الشمولي العام، والتي يتقبلها الله تعالى ويثيب عليها أجزل الثواب. روى البزَّار والطبراني عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فرأى الصحابة جلَدَه ونشاطه، فقالوا: "لو كان هذا في سبيل الله ؟! فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن كان خرج يسعى على أولاده صغارا فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى على نفسه يُعفُّها فهو في سبيل الله) .
وعند البيهقي والطبراني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب العبد المحترف)، هذا، ومن الثابت في القرآن والسنة: أن العديد من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ اشتغلوا في بعض المهن والحرف، فكان آدم حرَّاثا، وكان نوح نجَّارا، وكذلك كان زكريا، أما داوود فكان زرَّادا يصنع لباس الحرب، وكان إدريس خياطا، وكان موسى راعي غنم، بل إن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم عمل في رعي الغنم، وفي التجارة، وهو الذي قال كما في صحيح البخاري:(ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم).
ونتيجة لما تقدم، فقد كانت حياة المجتمع الإسلامي وأسواقه في صدر الإسلام حافلة بالحرف والمهن والصناعات وهي تعجُّ بالنشاطات المعيشية والاقتصادية المتنوعة، ومن ذلك ما يلي:
1ـ بيع الأقمشة والثياب:
يُطلق العرب علـى هذه الحرفـة: " البِزَازَة " ، ويقال للثياب : " بَزٌّ " ، ويقال لبائعـها: " بَزَّاز ". وكان في المدينة المنورة في العهد النبوي سوق للبزَّازين، قال أبو هريرة رضي الله عنه: "دخلت السوق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إلى البزازين فاشترى سراويل بأربعة دراهم، وكان لأهل السوق وزَّان يزن للناس...(رواه أحمد والطبراني وأبو يعلى). وممن اشتغل بهذه الحرفة عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، الذي كانت غلَّتُه كل يوم ألفي درهم، ومنهم سويد بن قيس العبدي، الذي اشترى منه النبي صلى الله عليه وسلم السراويل المذكورة في القصة الآنفة.
2ـ خياطة الثياب والأقمشة ...:
ازداد انتشار هذه الحرفة واتساعها مع نشوء الدولة النبوية، وهجرة المسلمين إلى المدينة المنورة عاصمة الإسلام الأولى، وكان لها رجالها المعروفون في الأسواق، ونساؤها المشهورات في البيوت، فضلا عن آلاتها وأدواتها ولوازمها...
ومما روي في هذا ما ذكره البخاري في صحيحه: (أن خيَّاطا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى طعام صنعه له، فاستجاب لدعوته وذهب إليه).
ومن الخياطين المعروفين فـي العصر النبوي عثمان بن طلحة، الذي دفع إليه النبي صلى الله عليه وسلم ـ في فتح مكة ـ مفتاح الكعبة ليحتفظ به عنده، ومن بعده ذريته. ومن الخياطين المشهورين أيضا: عيسى بن أبي عيسى.
3ـ نسج الثياب وحياكتها:
كثر عدد النساجين والنساجات الذين كانوا يحترفون حياكة الثياب في العهد النبوي، وكان أكثر الرجال يمارسون هذه الحرفة في الأسواق، بينما تمارسها النساء في البيوت. وكانوا يعتمدون في ذلك على خيوط الحرير، والصوف، والكتان وغيره مما يتم تصنيعه محليا، أو يستورد من اليمن والشام والعراق والهند...
وتذكر الروايات التاريخية: أن ممن عملوا في نسج الثياب وحياكتها الزبير بن العوام، وعمرو بن العاص، وعامر بن كريز، وسهل بن سعد...
4ـ بيع العطورات:
كان يقال لمن يشتغل بهذه الحرفة: العطار، وقد ازدادت وانتشرت مع انتشار الإسلام، نتيجة لترغيبه في النظافة والأناقة، وحثه على التطيُّب والتجمل وحسن المظهر. روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ثلاثة لا تُرَدُّ: الوِسادة، والدِّهْن، والطِّيِب). وجاء في السنن أنه سئل عن المِسْك فقال: (هو أطيب طيبكم). وكان له زجاجات في بعضها مسك، وفي بعضها عنبر... ومن العطارين المعروفين في صدر الإسلام: عبد الله بن ربيعة، ومن العطارات المعروفات: أمُّ عبد الله هذا، واسمُها: أسماء بنت مخربة، ومنهن الحولاء بنت ثويب...
- الكاتب:
أ.د. حسن عبد الغني أبوغدة - التصنيف:
تاريخ و حضارة