الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

بلْ أنتَ عند الله غالٍ

بلْ أنتَ عند الله غالٍ

بلْ أنتَ عند الله غالٍ

الميزان النبوي للناس لا ينظر إلى اللون والجنس، ولا يرجع إلى الجاه والجمال، وإنما التفاضل فيه بتقوى الله والعمل الصالح, كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(الحجرات:13)، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط أيام التشريق في حجة الوداع، فقال: أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، إنَّ أكرمَكم عند اللهِ أتقاكم، ألا هل بلَّغتُ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فليُبلِغِ الشَّاهدُ الغائبَ) رواه أحمد وصححه الألباني.

والسيرة النبوية فيها من المواقف الكثير التي تبين وتؤكد على أن الميزان الصحيح للرجال لا يكون بالصورة والمنظر، ولكن بالتقوى والعمل الصالح، ومن ذلك موقف النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يداعب فيه زاهر بن حرام رضي الله عنه، قال ابن الأثير في كتابه "أسْد الغابة في معرفة الصحابة": "زاهر بن حرام الأشجعي شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم.. كان من أهل البادية، وكان يهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من هدية البادية، فيجهزه النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن زاهراً باديتنا ونحن حاضرته).. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان رجلا دميما".
عن أنس رضي الله عنه: (أن رجلا من أهل البادية كان اسمه زاهرا، وكان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هدية من البادية، فيجهزه النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج إلى البادية إثابة على هداياه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، ويداعبه، ويقول: إن زاهراً باديتنا ونحن حاضروه. وكان زاهر رجلا دميما (قبيح المنظر والشكل)، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه، وهو لا يبصره، فقال زاهر: من هذا؟ أرسلني!! فالتفت زاهر فعرف أنه النبي صلى الله عليه وسلم فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: مَنْ يشتري هذا العبد؟ فقال: يا رسول الله إذا والله تجدني كاسداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكنك عند الله لست بكاسدٍ، بل أنت عند الله غال) رواه أحمد وابن حبان والترمذي وصححه الألباني. وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: (أنت عند الله رابح). وفي كتاب "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" لابن عبد البر: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنت عند الله ربيح".

قال القاري في "جمع الوسائل في شرح الشمائل": "(دميماً) أي قبيح الصورة مع كونه مليح السيرة، ففيه تنبيه على أن المدار على حسن الباطن، ولذا ورد: (إن الله لا ينطر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
وقال الطيبي: " وقوله: (إن زاهراً باديتنا ونحن حاضروه) معناه: إنا نستفيد منه ما يستفيد الرجل من باديته من أنواع النباتات، ونحن نعد له ما يحتاج إليه من البلد، (وكان دميما) أي قبيح الوجه كريه المنظر. وقوله: (فاحتضنه) أي أخذه في حضنه، (فجعل لا يألوا) أي طفق لا يقصر في لزق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم تبرُّكاً. وقوله: (إذاً) جواب وجزاء، أي: إن بعتني إذاً تجدني كاسدا، أي من المتاع الكاسد لما فيه من الدمامة".
وفي "شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية": "(من يشتري العبد) أي: من يشتري مثله في الدمامة، أو يستبدله مني، بأن يأتي بمثله، فلما فعل ذلك معه ملاطفة، نزله منزلة العبد، أو من يقابل هذا العبد، الذي هو عبد الله بالإكرام والتعظيم، أو أراد التعريض له، بأنه ينبغي أن يشتري نفسه من الله، ببذلها فيما يرضيه، وفيها تكلف. فقال له زهير: (يا رسول الله إذا) أي: إذا بعتني (تجدني كاسداً) رخيصاً، لا يرغب فيَّ أحد لدمامتي، وقبح منظري.. فقال له صلى الله عليه وسلم: (أنت عند الله غال) بغين معجمة، رفيع القدر عنده، وإن كسد في الدنيا لقبح منظره.. وفي رواية الترمذي فقال: (يا رسول الله إذا، والله تجدني كاسدًا)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لكن عند الله لست بكاسد)، أو" شك من الراوي، "قال: (أنت عند الله غال) ببركة محبته صلى الله عليه وسلم، فالصورة، لا يلتفت إليها، (إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)".

هذا الموقف النبوي مع زاهر بن حرام رضي الله عنه، ـ مع ما فيه من: بيان وتأكيد على أن الميزان النبوي للناس إنما هو بالقلوب والأعمال، وليس بالصورة والأموال، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالِكم، ولَكِن ينظرُ إلى قلوبِكُم وأعمالِكُم) رواه مسلم ـ ففيه كذلك: حسن خُلُق النبي صلى الله عليه وسلم وحسن معاشرته، وجميل ممازحته لأصحابه وتواضعه لهم، كما أمره ربه سبحانه بقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(الشعراء:215)، وقد بوَّب على هذا الحديث والموقف النبوي ـ في مزاحه مع زاهر بن حرام رضي الله عنه ـ جماعة ممن أخرجوه، منهم الترمذي في الشمائل، والبغوي في شرح السنة، والبيهقي في الآداب. وذكره ابن الجوزي في كتاب "الوفا بأحوال المصطفى"، وابن كثير في "البداية والنهاية" في باب ذكر مزاحه صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن مفلح في باب "حُسن الخُلُق" من كتاب الآداب الشرعية.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة