الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مدينة فاس عبق التاريخ

مدينة فاس عبق التاريخ

مدينة فاس عبق التاريخ

تشتهر بلاد المغرب الأقصى بغناها بالمدن العريقة ذات البعد التاريخي والحضاري الكبير، ومنها مدينة فاس العاصمة الدينية والروحية والعلمية للمغرب، ذات المساجد والجامعات والمدرس والأسواق والقصور والبروج القديمة التي تتميَّز بتاريخها العريق وعمارتها الفريدة وزخارفها الجميلة، وتشكل فاس جزءًا أساسيًّا من التراث المغربي والعربي والإسلامي؛ فهي مقصد للسياح العرب والأجانب، حيث وتتوزع فاس على مدينتين واحدة قديمة، وأخرى حديثة، فتمزج بين الماضي العريق، والحداثة المعاصرة.

تاريخ إنشاء مدينة فاس
تقع مدينة فاس في أقصى شمال شرق المملكة المغربية، وهي ثالث أكبر مدن المغرب بعد الدار البيضاء والعاصمة الرباط، وهي واحدة من المدن الأربعة العتيقة بالمغرب الأقصى التي تشمل مراكش، الرباط، مكناس، وفاس.
يعود تاريخ مدينة فاس إلى القرن الثاني الهجري، عندما قام إدريس بن عبد الله الأول مؤسِّس دولة الإدريسية عام (172هـ=789م) ببناء مدينة على الضفة اليمنى لنهر فاس، في بقعةٍ كان يرحل إليها قبائل زناتة (زواغة وبني يازغة)، ووفد إليها عشرات العائلات العربية من القرويين ليُقيموا أول الأحياء في المدينة، الذي عرف باسم "عدوة القرويين"، كما وفد إليها الأندلسيون الذين أُرغموا على الهجرة من الأندلس ليُكوِّنوا حي "عدوة الأندلسيين"، وكان هناك حيٌّ خاصٌّ لليهود وهو حيُّ الملاح.

بعد وفاة إدريس الأول بعشرين سنة أسَّس ابنه إدريس الثاني المدينة الثانية على الضفة اليسرى من النهر، وقد تعاظم دور مدينة فاس أيام إدريس الثاني وجعلها عاصمة لدولته، وقد ظلت المدينة مقسَّمة هكذا إلى أن دخلها المرابطون فأمر يوسف بن تاشفين بتوحيدهما وجعلهما مدينة واحدة، فصارت القاعدة الحربيَّة الرئيسة في شمال المغرب للدول المتتالية التي حكمت المنطقة، بالإضافة إلى كونها مركزًا دينيًّا وعلميًّا في شمال إفريقيا، وأُسِّست فيها جامعة القرويين عام (245هـ=859م) التي كانت مقصد الطلاب من جميع أنحاء العالم الإسلامي وأوربا، وجامعة القرويين هي أقدم جامعة في العالم.

وذكر ابن غالب في تاريخه أنَّ الإمام إدريس الثاني لما فرغ من بناء مدينة فاس وحضرت الجمعة الأولى، صعد المنبر وخطب الناس ثم رفع يديه في آخر الخطبة فقال: "اللهم إنك تعلم أنِّي ما أردت ببناء هذه المدينة مباهاة ولا مفاخرة ولا رياء ولا سمعة ولا مكابرة؛ وإنَّما أردت أن تُعبد بها ويُتلى بها كتابك، وتُقام بها حدودك وشرائع دينك وسنة نبيِّك محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ما بقيت الدنيا، اللهمَّ وفِّق سكانها وقطَّانها للخير وأعنهم عليه، واكفهم مؤنة أعدائهم، وأدر عليهم الأرزاق، وأغمد عنهم سيف الفتنة والشقاق، إنَّك على كلٍّ شيءٍ قدير". فأمَّن الناس على دعائه، فكثرت الخيرات بالمدينة وظهرت بها البركات.

وتنقسم مدينة فاس إلى ثلاثة أقسام: فاس البالي وهي المدينة القديمة، وفاس الجديد وقد بُنيت في القرن (السابع الهجري=الثالث عشر الميلادي)، خلال فترة حكم أسرة المرينيين، ما بين (677هـ=1269م)، وهو تاريخ إطاحتهم بأسرة الموحدين، و(870هـ=1465م)، وهو التاريخ الذي أطاح بهم فيه الوطاسيون ، ثم المدينة الجديدة التي بناها الفرنسيون إبَّان فترة الاستعمار، الذي بقي في المغرب في الفترة ما بين 1912 و1956م، ويُعتبر عهد المرينيين أزهى مراحل تطور مدينة فاس؛ إذ قاموا ببناء فاس الجديد، وتحصين المدينة بسور وتخصيصها بمسجدٍ كبيرٍ، وأحياء سكنية، وقصور، ومدارس، ومارستانات، وحدائق.

فاس الأثرية تراث إنساني عالمي
وتتميَّز فاس بمعالمها الأثرية التي تُؤرِّخ لتاريخها وحضارتها، من أهمها الأسوار والأبواب بأقواسها ونقوشها، وداخل الأسوار تتميز المدينة القديمة بوجود بنايات أصيلة ومستشفيات ومساجد وزوايا ومدارس، تعكس تطوُّر تقنيَّات البناء، ومهارات الصنَّاع التقليديين والبنائين على مدى أكثر من 12 قرنًا من تاريخ المدينة، وهي جميعًا أمكنة تستهوي الزوار والسياح، والمثير في مدينتها العتيقة أنَّ عرض الأزقة فيها لا يتجاوز المتر ونصف المتر. وقد اختيرت مدينة فاس كأحد مواقع التراث العالمي من قِبَل اليونسكو عام 1981م، حيث احتفلت المدينة سنة 2008م بعيد ميلادها الـ1200، ومع مرور 12 قرنًا فقد ظلَّت فاس محتفظة بموقع القلب النابض للحياة السياسية والثقافية للمغرب، وتكشف التفاعلات السكانية والحضارية التي صاحبت بناءها عام (172هـ=789م) سر هذا العمق الحضاري المتواصل.
المعالم الحضارية لمدينة فاس
لم يتفق المغاربة على وسم مدينة فاس بعاصمتهم الروحية والعلميَّة عبثًا؛ ففاس العتيقة تزخر بعشرات المساجد والمدارس العتيقة التي جعلتها مركزًا علميًّا مزدهرًا، تطوَّرت في حضنه مختلف العلوم الفقهية والفكرية والطبيعية وغيرها.

جامع وجامعة القرويين
وفي مقدمة هذه المعالم جامع القرويين الذي بني عام (245هـ=859م) على يد أم البنين فاطمة الفهرية القيروانية، التي يُقال إنَّها وهبت كلَّ ما ورثته لبناء الجامع، قبل أن يعمل أهل المدينة وحكام المغرب -على مدى التاريخ- على توسيع المسجد وترميمه والقيام بشئونه؛ حيث كان أهل المدينة وحكامها يقومون بتوسعة المسجد وترميمه والقيام بشئونه، وأضاف الأمراء الزناتيون بمساعدة من أمويي الأندلس حوالي 3 آلاف متر مربع إلى المسجد، وقام بعدهم المرابطون بإجراء توسعة أخرى، وتُعدُّ صومعة المسجد المربعة الواسعة أقدم منارة مربعة في بلاد المغرب العربي، وهي لا تزال في المسجد قائمةً إلى الآن من يوم توسعة الأمراء الزناتيين عمَّال عبد الرحمن الناصر على المدينة.

كما تُعتبر جامعة القرويين -التي بُنيت كمؤسَّسةٍ تعليميَّةٍ تابعةٍ لجامع القرويِّين- أقدم جامعة في العالم، وقد تخرَّج فيها ودرَّس بها الكثير من العلماء والمفكرين، أمثال موسى بن ميمون، وابن البناء المراكشي، وابن عربي، وابن رشد، وزارها الشريف الإدريسي ومكث فيها مدَّة، كما زارها ابن زهر مرَّات عديدة، ودوَّن النحوي ابن آجروم كتابه المعروف في النحو فيها، ولسان الدين بن الخطيب الذي ما زال البيت الذي أقام فيه شاهدًا على العصر الذهبي للحاضرة، وفضلًا عن العرب والمسلمين، تخرَّج من جامعة القرويين البابا سيلفستر الثاني (غربيرت دورياك الذي شغل منصب البابا من عام 999 إلى 1003م، ويُنسب إليه فضل إدخال الأرقام العربية إلى أوربا).

ولذلك اشتهرت فاس كعاصمةٍ علميَّةٍ وروحيَّةٍ للمغرب، وشكَّلت -على مدى تاريخها- مركزًا دينيًّا وعلميًّا في شمال وغرب إفريقيا، وتواصل إشعاع جامع وجامعة القرويين الى منتصف القرن العشرين، قبل أن ينحسر الاهتمام بنظام التعليم العتيق بتشييد المؤسسات التعليمية الحديثة منذ دخول الاستعمار الفرنسي.

مدارس فاس
وحول القرويين زخرت المدينة العتيقة، خصوصًا في عهد المرينيين (القرن 8هـ =14م)، بعددٍ من المدارس التقليدية التي تعكس اليوم العبقرية العمرانية لحرفيي المدينة، ومن أهمها المدرسة المصباحية (أبو الحسن المريني)، والمدرسة البوعنانية (أبو عنان)، وقبلهما مدرسة الصفارين التي يعود تأسيسها إلى عهد أبو يوسف المريني عام (679هـ=1280م)، وكانت هذه المدارس بمثابة مؤسَّسات تأهيليَّة تسمح للطالب بالانتقال إلى دراسات عليا بجامعة القرويين.

وظائف مدينة فاس
مازالت فاس تُمارس وظائفها الدينية والسياسية، بوصفها عاصمة الفقه والعلم، ومن فقهائها أبو عمر عمران الفاسي، والإمام أبو العباس التيجاني، وقد أعانت جامعة القرويين على أن تبقى فاس مركز الإشعاع الشرعي والفكري والثقافي والفني والحضاري حتى عهد الاستعمار الفرنسي، وقد أُقيمت فيها جامعة عصرية، وفيها مدارس شهيرة مثل مدرسة الصفارين والمصباحية، كما تتنوع فيها الفعاليات الاقتصادية؛ فلها تقليد تجاري عريق، ونشاط زراعي، وتحتل مكانة مهمَّة على الصعيد الصناعي الحرفي والحديث، وأغلب سكانها من الحرفيين والصناعيين، ولها شهرة سياحية مميَّزة.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة